(
ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة ) هذه جملة مستأنفة بين الله تعالى فيها ما يقوله لهؤلاء يوم القيامة بعد بيان ما تقوله لهم ملائكة العذاب كما جزم
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير ، لا معطوفة على ما قبلها من حكاية قول الملائكة ، كما حكاه
الرازي أحد وجهين ، وزعم أنه أقوى ، غافلا عن قوله تعالى : ( خلقناكم ) ولا ينافي هذا الخطاب قوله تعالى : (
ولا يكلمهم الله يوم القيامة ) 2 : 174 لأن معناه أنه لا يكلمهم كلام تكريم ورضا ،
[ ص: 523 ] أو هو كناية عن الغضب والإعراض ، والمعنى : لقد جئتمونا متفرقين فردا بعد فرد أو وحدانا منفردين عن الأنداد والأوثان ، والأهل والإخوان ، والأنصار والأعوان ، مجردين من الخول والخدم والأملاك والأموال ، كما خلقناكم أول مرة من بطون أمهاتكم حفاة عراة غلفا ، أكد تعالى الخبر بمجيئهم بعد ذكر وقوعه تذكيرا لهم بما كان من جحودهم إياه أو استبعادهم لوقوعه ، كما ذكرهم بمشابهة بعثهم وإعادتهم ببدء خلقهم ، وهو المثل الذي جاءهم به الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من ربهم (
وتركتم ما خولناكم ) " أعطيناكم ، وأما التخويل إعطاء الخول كالعبيد والنعم ، ويعبر بالترك وراء الظهر عما فات الإنسان التصرف فيه والانتفاع به ، لفقده إياه أو بعده عنه ، وبالتقديم بين الأيدي عما ينتفع به في المستقبل ، فالمراد هنا أن ما كان شاغلا لهم من المال والولد والخدم والحشم والأثاث والرياش عن الإيمان بالرسل والاهتداء بما جاءوا به لم ينفعهم ، كما كانوا يتوهمون أن الله فضلهم به على المؤمنين ، وأنهم يمكنهم الافتداء به أو ببعضه من عذاب الآخرة ، إن صح قول الرسل : إن بعد الحياة الدنيا حسابا وجزاء في حياة أخرى ، وإنما كان يمكنهم الانتفاع به لو آمنوا بالرسل وأنفقوا في سبيل الله . ولولا أن هذا هو المراد لاستغنى عن هذه الجملة بما قبلها . ومثل هذا يقال في قوله : (
وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء ) فإن الأديان الوثنية قائمة على قاعدتي الفداء والشفاعة كما تقدم بيانه مرارا ، أي وما نبصر معكم شفعاءكم من الملائكة وخيار البشر وغيرهم - أو تماثيلهم وقبورهم الذين زعمتم في الدنيا أنهم فيكم شركاء لله تعالى ، تدعونهم ليشفعوا لكم عند الله ويقربونكم إليه زلفى ، بتأثيرهم في إرادته ، وحملهم إياه على ما لم تتعلق في الأزل به ، وقد تقدم شرح هذه العقيدة الوثنية والتفرقة بينها وبين أحاديث الشفاعة في تفسير هذه السورة وغيرها (
لقد تقطع بينكم ) البين الصلة أو المسافة الحسية أو المعنوية الممتدة بين شيئين أو أشياء ، فيضاف دائما إلى المثنى كقوله تعالى : (
فأصلحوا بين أخويكم ) 49 : 10 (
فأصلحوا بينهما بالعدل ) 49 : 9 أو الجمع لفظا أو معنى كقوله تعالى : (
أو إصلاح بين الناس ) 4 : 114 ولا يضاف إلى الاسم المفرد إلا إذا كرر نحو (
هذا فراق بيني وبينك ) 18 : 78 (
ومن بيننا وبينك حجاب ) 41 : 5 ويستعمل في الغالب ظرفا غير متمكن وفي القليل اسما ، وقد قرأه هنا
عاصم وحفص عنه
nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي بفتح النون ، أي تقطع ما كان بينكم من صلات النسب والملك والولاء والخلة ، وقدر بعضهم تقطع الوصل
[ ص: 524 ] بينكم ، وقرأه الجمهور بالرفع على الفاعلية قالوا : أي تقطع وصلكم أو تواصلكم (
وضل عنكم ما كنتم تزعمون ) أي وغاب عنكم ما كنتم تزعمون من شفاعة الشفعاء ، وتقريب الأولياء ، وأوهام الفداء ، إذ علمتم بطلان غروركم به واعتمادكم عليه ، أو ضل عنكم الشفعاء الذين كنتم تزعمون أنهم يشفعون لكم ، ففي الكلام نشر على ترتيب اللف ، فإن تقطع البين راجع إلى ترك ما خولوا ، وفقد الشفاعة أو الشفعاء راجع إلى ما بعده . وجملة القول أن آمالهم خابت في كل ما كانوا يزعمون ويتوهمون ، وقد سبق لهذا نظير في الآيات ( 20 - 24 ) من هذه السورة فراجع تفسيرها في هذا الجزء .