(
فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ) جمع تعالى في هذه الآية المنزلة بين ثلاثة آيات سماوية ، بعد الجمع فيما قبلها بين ثلاث آيات أرضية ( فالآية الأولى ) فلق الإصباح ، والمراد به الصبح وأصله مصدر " أصبح الرجل " إذا دخل في وقت الصباح ومن الشواهد عليه قول
امرئ القيس :
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح منك بأمثل
.
وقرأ
الحسن بفتح الهمزة وأنشد قول الشاعر :
أفنى رياحا وبني رياح تناسخ الإمساء والإصباح
.
بالكسر والفتح - مصدرين ، وجمع مساء وصبح ، وفلق الإصباح عبارة عن فلق ظلمة الليل وشقها بعمود الصبح الذي يبدو في جهة مطلع الشمس من الأفق مستطيلا ، فلا يعيد به حتى يصير مستطيرا ، تتفرى الظلمة عنه من أمامه وعن جانبيه إلى أن تنقشع وتزول ; ولذلك سمي فجرا فإن الفجر بمعنى الفلق كما تقدم آنفا . والله تعالى هو فالق الإصباح بنور الشمس
[ ص: 528 ] الذي يتقدمها ; إذ هو خالقها ومقدر مواقع الأرض منها في سيرها ، كما نبينه في الآية الثالثة من آيات هذه الآية فإنها معللة للآيتين قبلها ، والمراد من التذكير بالآية الأولى التأمل في صنع الله بفري الليل إذا عسعس ، عن صبحه إذا تنفس ، وإفاضة النور الذي هو مظهر جمال الوجود ، ومبدأ زمن تقلب الأحياء في القيام والقعود ، والركوع والسجود ، ومضيهم في تجلي النهار إلى ما يسروا له من الأعمال ، وما لله في ذلك من نعم وحكم وأسرار . ويدل على ذلك ذكر الآية الثانية بفائدتها ، وهي آية الليل يجعله الله سكنا ، فهذا المذكور يدل على مقابلة المحذوف ، وهو جعل النهار وقتا للحركة بالسعي للمعاش ، والعمل الصالح للمعاد ، وقد صرح بنوعي الفائدتين في آيات كقوله تعالى : (
ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ) 28 : 73 فهذه الآية على إيجازها جامعة للفوائد الدنيوية والدينية ، وفيها اللف والنشر ، أي لتسكنوا في الليل وتطلبوا الرزق من فضل الله في النهار ، وليعدكم لشكر نعمه عليكم بهما ، وبمنافعكم في كل منهما . ومن الآيات المصرحة بذكرهما ما قرن بالتذكير بفائدتهما الدنيوية فقط كقوله تعالى : (
وجعلنا الليل لباسا وجعلنا النهار معاشا ) 78 : 10 ، 11 ومنها ما قرن بالتذكير بفائدتهما الدينية فقط كقوله تعالى : (
وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ) 25 : 62 فيا لله من إيجاز القرآن وبلاغته ، في اختلاف عبارته ! ! .
قرأ
عاصم nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي " وجعل الليل " بالفعل الماضي ، وقرأه الجمهور بصيغة اسم الفاعل " وجاعل " ورسمهما في المصحف الإمام واحد ، والأولى تقوي جانب الإعراب ; فإن الشمس والقمر المعطوفين على الليل منصوبان بإجماع القراء ، ولا يظهر نصبهما على القراءة الثانية إلا بتقدير جعل ، أو جعل " جاعل " بمعناه ، وهو تكلف يجتنب في الفصيح . والثانية تناسب السياق والنسق بعطف الاسم على الاسم وهو الأصل الذي لا يخرج عنه في الفصيح إلا لنكتة . فبالجمع بين القراءتين زال التكلف وتم التناسب ، فيا لله من فصاحة القرآن في عبارته ، واختلاف قراءته ! ! .
والسكن - بالتحريك - السكون وما يسكن فيه من مكان كالبيت وزمان كالليل ، وكذا ما يسكن إليه ، وهو ما اختاره الكشاف هنا قال : السكن ما يسكن إليه الرجل أي وغيره ويطمئن استئناسا به واسترواحا إليه من زوج أو حبيب ، ومنه قيل للنار سكن لأنه يستأنس بها ، ألا تراهم سموها المؤنسة ، والليل يطمئن إليه المتعب بالنهار لاستراحته فيه وجمامه . ويجوز أن يراد وجعل الليل مسكونا فيه من قوله : ( لتسكنوا فيه ) انتهى . وهذا الأخير المرجوح عنده هو الراجح المختار عندنا إلا أنه يجوز الجمع بينهما ، ودليل الترجيح نص ( لتسكنوا فيه ) وكون المسكون فيه أعم وأظهر من المسكون إليه ; فإن كثيرا من الناس يستوحشون من الليل ولا يأنسون به ، وإن كان له على آخرين أياد جلية أو خفية ،
[ ص: 529 ] تنقض مذهب المانوية ، فيستطيله المرضى والمهمومون والمهجورون ، ويستقصره العابدون الواصلون ، والعاشقون الموصولون ، فذلك يقول ما أطوله ويطلب انجلاءه ، وهذا يقول ما أقصره ويتمنى بقاءه :
يود أن سواد الليل دام له وزيد فيه سواد القلب والبصر
.
والمراد بالسكون فيه ما يعم سكون الجسم وسكون النفس . أما سكون الجسم فبراحته من تعب العمل بالنهار ، وأما سكون النفس فبهدوء الخواطر والأفكار ، والليل زمن السكون لأنه لا يتيسر فيه من الحركة وأنواع الأعمال ما يتيسر في النهار ، لما خص به الأول من الإظلام والثاني من الإبصار (
وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب ) 17 : 12 فأكثر الأحياء من إنسان وحيوان تترك العمل والسعي في الليل وتأوي إلى مساكنها ; للراحة التي لا تتم وتكمل إلا بالنوم الذي تسكن به الجوارح والخواطر ببطلان حركتها الإرادية ، كما تسكن به الأعضاء الرئيسية سكونا نسبيا بقلة حركتها الطبيعية ، فتقل نبضات القلب بوقوفها بين كل نبضتين ، ويقل إفراز خلايا الجسم للسوائل والعصارات التي تفرزها ، ويبطئ التنفس ويقل ضغط الدم في الشرايين ، ولا سيما في أول النوم إذ تكون الحاجة إلى الراحة به على أشدها ، ويضعف الشعور حتى يكاد يكون مفقودا ، فيستريح الجهاز العصبي ولا سيما الدماغ والحبل الشوكي ، وتستريح جميع الأعضاء باستراحته ، ونقل الفضلات التي تنحل من البدن وتكثر الدقائق التي تتكون من الدم لتحل محلها . وإنما تكثر الفضلات وانحلال الذرات بكثرة العمل ، فالعمل العقلي يجهد الدماغ ، والعضلي يجهد الأعضاء العاملة ، فتزداد الحرارة ويكثر الاحتراق بحسب كثرة العمل وتكون الحاجة إلى الراحة بالنوم بقدر ذلك ، وقد علل النوم تعليلات كثيرة ، ولما يصل العلماء إلى كشف سره واستجلاء كنه سببه .
وأما الآية الثالثة الكونية في الآية فهي جعل الشمس والقمر حسبانا أي علمي حساب ، لأن طلوعهما وغروبهما وما يظهر من تحولاتهما واختلاف مظاهرهما كل ذلك بحساب كما قال تعالى : (
الشمس والقمر بحسبان ) 55 : 5 فما هنا بمعنى آية الإسراء ( 17 : 12 ) التي ذكرت آنفا وآية يونس (
هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ) 10 : 5 فالحساب بالكسر والحسبان بالضم مصدران لحسب يحسب ( من باب نصر ) وهو استعمال العدد في الأشياء والأوقات ، وأما الحسبان بالكسر فهو مصدر حسب ( بوزن علم ) وفضل الله تعالى في ذلك عظيم ; فإن حاجة الناس إلى معرفة حساب الأوقات لعباداتهم ومعاملاتهم وتواريخهم لا تخفى على أحد منهم في جملتها ، وعند خواص العلماء من ذلك ما ليس عند غيرهم ، وعلماء الفلك والتقاويم متفقون في هذا العصر
[ ص: 530 ] على أن للأرض حركتين ، حركة تتم في 24 ساعة وهي مدار حساب الأيام ، وحركة تتم في سنة وبها يكون اختلاف الفصول وعليها مدار حساب السنين الشمسية ، ولعلنا نشرح هذا في تفسير سورة يونس وغيرها .
(
ذلك تقدير العزيز العليم ) أي ذلك الجعل العالي الشأن ، البعيد المدى في الإبداع والإتقان ، فوق بعد النيرات عن الإنسان ، الترتب على ما ذكر من سبب اختلاف الأيام والفصول وتقدير السنن الشمسية ، ومن تشكلات القمر التي نعرف بها الشهور القمرية ، هو تقدير الخالق الغالب على أمره في تنظيم ملكه ، الذي وضع المقادير والأنظمة الفلكية وغيرها بما اقتضاه واسع علمه ، فهذا النظام والإبداع من آثار عزته وعلمه عز وجل ، فليس في ملكه جزاف ولا خلل (
إنا كل شيء خلقناه بقدر ) 54 : 49 .