(
فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ) هذا وصف لحال المستعد لهداية الإسلام بسلامة فطرته وطهارة نفسه من الخلقين الصادين عن إجابة دعوة الحق وهما الكبرياء والحسد وبتحليها - أي نفسه - بالهاديين إلى الحق والرشاد . وهما استقلال الفكر الصاد عن تقليد الآباء والأجداد ، وقوة الإرادة الصارفة عن اتباع الرؤساء أو مجاراة الأنداد ، فمن كان كذلك كان أهلا بإرادة الله تعالى وتقديره لقبول دعوة الإسلام الذي هو دين الفطرة ومهذبها ، فإذا ألقيت إليه وجد لها في صدره انشراحا واتساعا بما يشعر به قلبه من السرور وداعية القبول ، وذلك أنه لا يجد مانعا من النظر الصحيح فيما ألقي إليه فيتأمله فتظهر له آيته ، وتتضح له دلالته فتتوجه إليه إرادته ، ويذعن له قلبه فتتبعه جوارحه ، وهذا هو النور الذي يفيض عليه من القرآن أو الذي يسير فيه باتباعه له ، فهذه الآية مقابلة لآية المثل الذي ضربه الله تعالى في هذا السياق للمؤمنين والكافرين ، وما العهد بها ببعيد ، وفي معناها قوله تعالى : (
أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين ) ( 39 : 22 ) . (
ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ) قرأ
ابن كثير " ضيقا " بتخفيف الياء والباقون بتشديدها ، فهو كميت وميت وهين وهين ولين ولين . وقرأ
نافع وأبو بكر عن
عاصم " حرجا " بكسر الراء على الصفة المشبهة والباقون بفتحها على الوصف
[ ص: 37 ] بالمصدر ، فهو كدنف ودنف : وقرأ
ابن كثير " يصعد " بسكون الصاد مضارع صعد الثلاثي ( كفرح يفرح )
وأبو بكر عن
عاصم يصاعد بالألف وتشديد الصاد وأصله يتصاعد ، أي يحاول الصعود المرة بعد المرة ، والباقون ( يصعد ) بتشديد الصاد والعين وأصله يتصعد أي يتكلف الصعود ويحاول منه ما لا يستطيع .
وهذا وصف للكافر غير المستعد لقبول الإسلام بما أفسد من فطرته بالشرك وأعماله ، وبما تدنست به نفسه من رذيلتي الكبر والحسد اللذين يصرفان المدنس بهما عن التأمل فيما يدعى إليه والحرص على استبانة الحق والباطل فيه ، ويشغلانه بما يكون من شأنه مع الداعي له إلى الشيء ، فيعز على المستكبر والحاسد أن يكون تابعا لغيره وهو يرى نفسه أجدر بالإمامة منها بالقدوة ، أو بما سلبه استقلال الفكر وصحة النظر من التقليد الأعمى الأصم ، أو ما حرمه حرية التصرف وهو ضعف الإرادة عن مخالفة الجمهور ، فهو إذا عرضت عليه الدعوة يجد صدره ضيقا حرجا أو ذا حرج شديد ، وهو تأكيد الضيق لأنه بمعناه ، وقيل : بل هو أضيق الضيق . وجعله
الراغب وغيره مشتقا من الحرجة التي هي الشجر الكثير الملتف بعضه ببعض بحيث لا يتسع للزيادة . وروي أن
عمر سأل أعرابيا من مدلج عن الحرجة فقال : هي الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية ولا وحشية . فقال
عمر : كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير . ذكره
الحافظ ابن كثير . وفي لسان العرب عن
الفراء قال : الحرج فيما فسر
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس هو الموضع الكثير الشجر الذي لا تصل إليه الراعية قال : وكذلك صدر الكافر لا تصل إليه الحكمة ، انتهى . وهذا يتفق مع ما قبله فإن الحرج بالتحريك جمع حرجة وهي الشجر المذكور . وأطلق كل منهما على المكان ذي الشجر الكثير الملتف . والمعنى أنه يجد صدره شديد الضيق لا يتسع لقبول شيء جديد مناف لما استحوذ على قلبه وفكره من التقاليد ، أو لما يزلزل كبرياءه ويصادم حسده من الخضوع والاتباع لمن يرى نفسه أولى منه بالرياسة والإمامة ، فيكون استثقاله لإجابة الدعوة وشعوره بالعجز عنها كشعوره بالعجز عن الصعود بجسمه في جو السماء لأجل الوصول إليها أو التصاعد فيها بالتدريج ، أو التصعد أي التكلف له ، وصعود السماء يضرب به المثل فيما لا يستطاع ، أو ما يشق على النفس حتى كأنه غير مستطاع . وروي عن
مجاهد والسدي تفسير الضيق الحرج بالشاك ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=16566عطاء الخراساني بما ليس فيه للخير منفذ ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير قال : لا يجد فيه مسلكا ولا مصعدا .
(
كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) أي مثل جعل الصدر ضيقا حرجا بالإسلام ، وعلى هذا النحو في سنة الله فيه وتقديره له بما ذكرنا من أسبابه يجعل الله الرجس على الذين يعرضون عن الإيمان ، فيظهر في أعمالهم وتصرفهم ولا سيما مع أهل الدعوة ، فيكون معظمها قبيحا سيئا في ذاته أو فيما بعث عليه من قصد ونية فإن الرجس يطلق في اللغة على كل ما يسوء أو يستقذر حسا أو عقلا أو عرفا . وقد أطلنا في شرح معناه في تفسير آية الخمر
[ ص: 38 ] من سورة المائدة ( 5 : 90 ) فهو يفسر في كل كلام بما يناسب المقام ، وقد روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس تفسيره هنا بالشيطان ، وعن
مجاهد بكل ما لا خير فيه ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=16327عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بالعذاب ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج : هو اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة . وقال تعالى في سورة يونس : (
وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ) ( 10 : 100 ) وكأن الجعل في الآيتين ضمن معنى الإلقاء ، أي على ذلك النحو في أسباب جعل الصدر ضيقا حرجا بأصل الإسلام يقع الرجس بتقدير الله - تعالى - على الذين لا يؤمنون بأن يكون لازما لهم ، وتلقى تبعته عليهم ; لأن الإيمان الذي اجتنبوه هو الذي يصد عنه ويطهر الأنفس منه ولأجل هذا لم يقل : كذلك يجعل الله الرجس عليهم ، أو على الكافرين .
واعلم - أيها القارئ - أن هذه الآية كانت معترك أهل الكلام من
القدرية الجبرية والمعتزلة والأشعرية -
فالقدرية الذين ينكرون أن خلق الخلق وقع بتقدير سابق من الله - تعالى - ونظام ثابت بسنن حكيمة يقولون : إن الآية ظاهرة في أن الله تعالى إذا أراد هداية امرئ يخلق في صدره انشراحا للإسلام فيكون قبوله له بخلق الله ، وهذا الخلق يحصل آنفا أي جديدا غير مرتب على تقدير سابق .
والجبري منهم ومن غيرهم يقول : إذا كان الأمر كذلك فإسلام المرء ليس باختياره ولا كسبه بل بفعل الله - تعالى - وحده ، ومن
الأشعرية من يقول : له فيه كسب ينسب إليه ولكن مخلوق لله لا تأثير له في نفسه ، وحاصل القولين واحد ، ويقولون مثل هذا فيمن يريد أن يضله فيخلق له من ضيق الصدر والحرج ما يثبت به على كفره ويمتنع من قبول الإيمان .
وللمعتزلة تأويلات في الآية حاولوا فيها تطبيقها على مذهبهم في كون إيمان المرء وكفره من فعله المستقل ، فجعلها بعضهم خاصة بهداية المؤمن في الآخرة إلى طريق الجنة وضلال الكافر عنه . وبعضهم من قبيل ما يعبرون عنه بمنح الألطاف والتوفيق المسهل لمن أراد الله هدايته أن يهتدي بفعله وكسبه ، وعدم منح ذلك لمن لا يريد منه ذلك فيبقى على كفره بإرادته واختياره ، وهذا أقرب ما قالوه إلى مذهب أهل السنة .
وإنما وقع حذاق النظار في أمثال هذا الخلاف لاتخاذ مذاهبهم أصولا مسلمة ، ومحاولة حمل نصوص كتاب الله - تعالى - وأخبار رسوله - صلى الله عليه وسلم - عليها لتصحيحها وإبطال مذاهب خصومهم المخالفة لها ، فهم ينظرون في كل آية تتعلق بقواعد هذه المذاهب مفردة على حدتها ولا يعرضونها على سائر الآيات التي في موضوعها ليكونوا مؤمنين وعاملين بالكتاب كله جاعليه عضين . ومن استعرض عقله عند تحقيق كل عقيدة أو مسألة مجموع ما ورد فيها يتجلى له الحق ، وأنه لا مجال للاختلاف في كتاب الله سبحانه (
ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) ( 4 : 82 ) ففي الكتاب أن الله تعالى خلق كل شيء
[ ص: 39 ] بقدر لا آنفا جديدا غير مرتبط بنظام سابق . وفيه أن كل شيء بإرادته ومشيئته وأن مشيئته مقرونة بحكمته التي اقتضت النظام والتقدير ، وتنزه بها عن الأنف والجزاف والتفاوت والخلل وفيه أن إيمان العبد المكلف يقع بفعله واختياره ، وأن الله تعالى هو الذي خلقه فاعلا بالإرادة والاختيار ; وبهذا لا يكون فعله وكسبه منافيا لخلق الله ومشيئته ، ولا جاعلا له مستقلا دونه - تعالى - مستغنيا عن توفيقه وإمداده في كل حين حتى يقال إنه جعل خالقا لعلمه . فالفرق بين الفعلين عظيم ، وبهذا الجمع بين نصوص الوحي ، تظهر حجة الله البالغة على الخلق .
والتوفيق عناية خاصة من الله تعالى يتفضل بها على بعض عباده ، وهو أعلم حيث يضع توفيقه كما هو أعلم حيث يجعل رسالته ، فيجمع لمن تفضل عليه به بين ما جعله في مقدوره وتناول كسبه ، وبين ما ليس كذلك مما فيه الخير والمصلحة له ، فيتفق له الأمران ، والخذلان ضده أو عدمه ، فهو أمر سلبي ولا يظلم الله العبد المخذول شيئا ، وقد يفسر الشيء تفسيرا سلبيا تكون حقيقته إيجابية وتفسيرا إيجابيا تكون حقيقته سلبية . قال المحقق
ابن القيم في بيان مشهد التوفيق ، والخذلان من كتابه ( مدارج السالكين ) : وقد أجمع العارفون بالله أن التوفيق : هو ألا يكلك الله إلى نفسك ، والخذلان : هو أن يخلي بينك وبين نفسك . انتهى . وهذا تعريف بالرسم واضح المعنى فيما قلناه ، فمعنى ألا يكلك إلى نفسك : هو أن يمنحك فوق كل ما في قدرتك وما تتوجه إليه إرادتك مما تعلم من الخير لنفسك ما يتوقف عليه النجاح وإصابة الخير مما ليس في مقدورك ولا يصل إليه اجتهادك وحدك ، وبعض ذلك نفسي وبعضه خارجي ، فمعنى التوفيق إيجابي . وقولهم في تفسير الخذلان " أن يكلك إلى نفسك " معناه ألا يمنحك شيئا من العناية الخاصة فيما يصل إليه كسبك ، ولا تسخير ما لا يصل إليه ، فلا تنال من الخير إلا بقدر قدرتك على ما تعلم وتريد من أسبابه ، وقدرتك لا تصل إلى كل ما تعلم أن فيه الخير لك ، وعلمك غير محيط بما فيه ذلك الخير ، فأنت تجهل كثيرا ، وما أوتيت من العلم إلا قليلا ، وكثيرا ما تظن الجهل علما والشر خيرا .
وقد جاء
ابن القيم بعد ذلك بتفسير إيجابي فقال : والتوفيق إرادة الله من نفسه أن يفعل بعبده ما يصلح به العبد ، بأن يجعله قادرا على فعل ما يرضيه مريدا له محبا له ، مؤثرا له على غيره ، ويبغض إليه ما يسخطه ويكرهه إليه ، وهذا مجرد فعله والعبد محل له . قال الله تعالى . (
ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم ) ( 49 : 7 ، 8 ) فهو سبحانه عليم بمن يصلح لهذا الفضل ومن لا يصلح له ، حكيم يضعه في مواضعه وعند أهله ، لا يمنعه أهله ، ولا يضعه عند غير أهله . إلى آخر ما قال وأجاد .