( قال أصحاب الفناء : الكلام على هذه الطرق يبين الصواب في هذه المسألة )
( فأما الطريق الأول ) فالإجماع الذي ادعيتموه غير معلوم ، وإنما يظن الإجماع في هذه المسألة من لم يعرف النزاع ، وقد عرف النزاع بها قديما وحديثا ، بل لو كلف مدعي الإجماع أن ينقل عن عشرة من الصحابة فما دونهم إلى الواحد أنه قال إن النار لا تفنى أبدا لم يجد إلى ذلك سبيلا ، ونحن قد نقلنا عنهم التصريح بخلاف ذلك فما وجدنا عن واحد منهم خلاف ذلك ، بل التابعون حكوا عنهم هذا وهذا ، قالوا : والإجماع المعتد به نوعان ، متفق عليهما ، ونوع ثالث مختلف فيه ، ولم يوجد واحد منها في هذه المسألة .
النوع الأول - ما يكون معلوما من ضرورة الدين كوجوب أركان الإسلام وتحريم المحرمات الظاهرة . ( الثاني ) ما ينقل عن أهل الاجتهاد التصريح بحكمه . ( الثالث ) أن يقول بعضهم القول وينشر في الأمة ولا ينكره أحد ، فأين معكم واحد من هذه الأنواع ؟ ولو أن قائلا ادعى الإجماع من هذه الطريق واحتج بأن الصحابة صح عنهم ولم ينكر أحد منهم عليه لكان أسعد بالإجماع منكم .
( قالوا : وأما الطريق الثاني ) وهو
دلالة القرآن على بقاء النار وعدم فنائها ، فأين في القرآن دليل واحد يدل على ذلك ؟ نعم الذي دل عليه القرآن أن الكفار خالدون في النار أبدا
[ ص: 68 ] وأنهم غير خارجين منها ، وأنه لا يفتر عنهم من عذابها ، وأنهم لا يموتون فيها ، وأن عذابهم فيها مقيم ، وأنه غرام أي لازم لهم ، وهذا كله مما لا نزاع فيه بين الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين ، وليس هذا مورد النزاع وإنما النزاع في أمر آخر ، وهو أنه
هل النار أبدية أو مما كتب عليه الفناء ؟ وأما كون الكفار لا يخرجون منها ، ولا يفتر عنهم من عذابها ، ولا يقضى عليهم فيموتوا ، ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ، فلم يختلف في ذلك الصحابة ولا التابعون ولا أهل السنة . وإنما خالف في ذلك من قد حكينا أقوالهم من
اليهود والاتحادية وبعض أهل البدع ، وهذه النصوص وأمثالها تقتضي خلودهم في دار العذاب ما دامت باقية ، ولا يخرجون منها مع بقائها ألبتة كما يخرج أهل التوحيد منها مع بقائها ، فالفرق كالفرق بين من يخرج من الحبس وهو حبس على حاله وبين من يبطل حبسه بخراب الحبس وانتقاضه .
( قالوا : وأما الطريق الثالث ) وهو
مجيء السنة المستفيضة بخروج أهل الكبائر من النار دون أهل الشرك فهي حق لا شك فيه ، وهي إنما تدل على ما قلناه من خروج الموحدين منها وهي دار عذاب لم تفن ، ويبقى المشركون فيها ما دامت باقية . والنصوص دلت على هذا وعلى هذا .
( قالوا : وأما الطريق الرابع ) وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقفنا على ذلك ضرورة فلا ريب أنه من المعلوم من دينه بالضروة أن الكفار باقون فيها ما دامت باقية ، هذا معلوم من دينه بالضرورة ، وأما كونها أبدية لا انتهاء لها ولا تفنى كالجنة فأين في القرآن والسنة دليل واحد يدل على ذلك .
( قالوا : وأما الطريق الخامس ) وهو أن في عقائد أهل السنة أن الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدا فلا ريب أن القول بفنائهما قول أهل البدع من الجهمية والمعتزلة . وهذا القول لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا أحد من أئمة المسلمين ، وأما فناء النار وحدها فقد وجدنا من قال به من الصحابة وتفريقهم بين الجنة والنار ، فكيف يكون القول به من أقوال
[ ص: 69 ] أهل البدع مع أنه لا يعرف عن أحد من أهل البدع التفريق بين الدارين ؟ فقولكم إنه من أقوال أهل البدع كلام من لا خبر له بمقالات بني
آدم وآرائهم واختلافهم .
قالوا : والقول الذي يعد من أقوال أهل البدع ما خالف كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة أو الصحابة أو من بعدهم . وأما قول يوافق الكتاب والسنة وأقوال الصحابة فلا يعد من أقوال أهل البدع وإن دانوا به واعتقدوه ، فالحق يجب قبوله ممن قاله ، والباطل يجب رده على من قاله . وكان
nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ بن جبل يقول : الله حكم قسط هلك المرتابون . إن من ورائكم فتنا يكثر فيها المال ويفتح فيها القرآن حتى يقرأه المؤمن والمنافق ، والمرأة والصبي والأسود والأحمر فيوشك أحدهم أن يقول قد قرأت القرآن فما أظن أن يتبعوني حتى أبتدع لهم غيره فإياكم وما ابتدع فإن كل بدعة ضلالة وإياكم وزيغة الحكيم فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة ، وإن المنافق قد يقول كلمة الحق ، فتلقوا الحق عمن جاء به فإن على الحق نورا . قالوا : وكيف زيغة الحكيم ؟ قال : هي الكلمة تروعكم وتنكرونها وتقولون ما هذا ؟ فاحذروا زيغه ولا تصدنكم عنه فإنه يوشك أن يفيء وأن يراجع الحق . وإن العلم والإيمان مكانهما إلى يوم القيامة . والذي أخبر به أهل السنة في عقائدهم هو الذي دل عليه الكتاب والسنة وأجمع عليه السلف أن الجنة والنار مخلوقتان ، وأن أهل النار لا يخرجون منها ولا يخفف عنهم من عذابها ولا يفتر عنهم وأنهم خالدون فيها . ومن ذكر منهم أن النار لا تفنى أبدا فإنما قاله لظنه أن بعض أهل البدع قال بفنائها ولم يبلغه تلك الآثار التي تقدم ذكرها .
( قالوا ) : وأما حكم العقل بتخليد أهل النار فيها فإخبار عن العقل بما ليس عنده ، فإن المسألة من المسائل التي لا تعلم إلا بخبر الصادق ، وأما أصل الثواب والعقاب فهل يعلم بالعقل مع السمع أو لا يعلم إلا بالسمع وحده ؟ ففيه قولان لنظار المسلمين من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم ، والصحيح أن العقل دل على المعاد والثواب والعقاب إجمالا ، وأما تفصيله فلا يعلم إلا بالسمع ، ودوام الثواب والعقاب مما لا يدل عليه العقل بمجرده وإنما علم بالسمع ، وقد دل السمع دلالة قاطعة على دوام ثواب المطيعين ، وأما عقاب العصاة فقد دل السمع أيضا دلالة قاطعة على انقطاعه في حق الموحدين . وأما دوامه وانقطاعه في حق الكفار فهذا معترك النزال ، فمن كان السمع في جانبه فهو أسعد بالصواب وبالله التوفيق .
[ ص: 70 ]