(
ربنا واجعلنا مسلمين لك ) المسلم والمسلم والمستسلم واحد وهو : المنقاد الخاضع ، والمراد بالكلمة : ما يشمل التوحيد والإخلاص لله - تعالى - في الاعتقاد والعمل جميعا ، ومعنى الأول - أي الإخلاص في الاعتقاد - أي لا يتوجه المسلم بقلبه إلا إلى الله ولا يستعين بأحد فيما وراء الأسباب الظاهرة إلا بالله ، ومعنى الثاني : أن يقصد بعمله مرضاة الله - تعالى - لا اتباع الهوى وإرضاء الشهوة ، وإنما يرضيه - تعالى - منا أن نزكي نفوسنا بمكارم الأخلاق ، ونرقي عقولنا بالاعتقاد الصحيح المؤيد بالبرهان ، فبذلك نكون محل عنايته - تعالى - ومستودع معرفته ، وموضع كرامته ، ومن يقصد بأعماله إرضاء لشهوته واتباع هواه لا يزيد نفسه إلا خبثا ، وبذلك يكون بعيدا عن الإسلام ويصدق عليه قوله : (
أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ) ( 25 : 43 ) ؟ .
وقد يقال : إن الإسلام يندفع لمعظم الأعمال بسائق طلب المنفعة واللذة وهو سائق فطري ، فكيف ينافيه الإسلام وهو دين الفطرة . ومثاله طلب الغذاء لقوام الجسم يسوق إليه التلذذ بالطعام ، ومثل ذلك طلب اللذات العقلية والأدبية فكيف يمكن أن يكون ما يطلب للذة خالصا لله وحده ؟ والجواب : أن الإسلام قد حل هذه المسألة حلا لا يجده الإنسان في ديانة أخرى ، ذلك أنه لم يحرم علينا إلا ما هو ضار بنا ، ولم يوجب علينا إلا ما هو نافع لنا ، وقد أباح لنا ما لا ضرر في فعله ولا في تركه من ضروب الزينة واللذة إذا قصد بها مجرد اللذة ، وأما إذا قصد بها مع اللذة غرض صحيح وفعلت بنية صالحة فهي في حكم الطاعات التي يثاب عليها ، ومن نية المرء الصالحة في الزينة والطيب أن يسر إخوانه بلقائه ، وأن يظهر نعم الله عليه ، وأن يتقرب
[ ص: 387 ] إلى امرأته ويدخل السرور عليها ، وإنما الهوى المذموم في الإسلام هو الهوى الباطل ، كأن يتزين الرجل ويتطيب للمفاخرة والمباهاة ، أو ليستميل إليه النساء الأجنبيات عنه ، وبذلك تكون الزينة مذمومة شرعا و ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918639إنما الأعمال بالنيات ) ) .
دعا هذان النبيان العظيمان لأنفسهما بحقيقة الإسلام ، ثم دعوا بذلك لذريتهما فقالا : (
ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ) أي واجعل من ذريتنا أمة مسلمة لك كإسلامنا ليستمر الإسلام لك بقوة الأمة وتعاون الجماعة .
قال الأستاذ الإمام : أضافا الذرية إلى ضمير الاثنين للدلالة على أن المراد الذرية التي تنسب إليهما معا وهي ما يكون من ولد
إسماعيل ، اللفظ ظاهر في هذا المعنى ويرجحه الحال والمحل الذي كانا فيه ، وعزم
إبراهيم على أن يدع
إسماعيل في بلاد العرب داعيا إلى توحيد الله ، وإسلام القلب إليه ، ويرجع هو إلى بلاد
الشام ، وكذلك الدعاء لهذه الذرية بأن يبعث الله فيهم رسولا منهم كما سيأتي .
وقد
استجاب الله - تعالى - دعاء إبراهيم وولده - عليهما السلام ، وجعل في ذريتهما أمة الإسلام ، وبعث فيها منها خاتم النبيين - عليه الصلاة والسلام ، وإلى هذا الدعاء الإشارة بقوله في سورة الحج : (
ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ) ( 22 : 78 ) وعلم مما تقدم أن
المراد بالإسلام معناه الذي شرحناه ، فمن قام به هذا المعنى فهو المسلم في عرف القرآن ، وليس المراد به اسم في حكم الجامد يطلق على أمة مخصوصة حتى يكون كل من يولد فيها أو يقبل لقبها مسلما ذلك الإسلام الذي نطق به القرآن ، ويكون من الذين تنالهم دعوة
إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ، وقد جرى
إبراهيم وولده على سنة الفطرة في هذا الدعاء أيضا ، فخصاه ببعض الذرية ؛ لأنه قد يكون منها من لا يتناول الإسلام .
(
وأرنا مناسكنا ) أي علمنا إياها علما يكون كالرؤية البصرية في الجلاء والوضوح ، والمناسك : جمع منسك بفتح السين في الأفصح من النسك ( بضمتين ) ومعناه غاية العبادة ، وغلب استعمال النسك في عبادة الحج خاصة ، والمناسك في معالمه أو أعماله ، (
وتب علينا ) أي وفقنا للتوبة لنتوب ونرجع إليك من كل حال أو عمل يشغلنا عنك . ويدل عليه قوله - تعالى - : (
ثم تاب عليهم ليتوبوا ) ( 9 : 118 ) أو المعنى : اقبل توبتنا ، ومنه الحديث : ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918640ويتوب الله على من تاب ) ) وتاب - بالمثناة - كثاب ( بالمثلثة ) ومعناه : رجع . ويقال : تاب العبد : إلى ربه أي رجع
[ ص: 388 ] إليه ؛ لأن
اقتراف الذنب إعراض عن الله أي عن طريق دينه وموجبات رضوانه ، ويقال : تاب الله على العبد ؛ لأن
التوبة من الله تتضمن معنى الرحمة والعطف ؛ كأن الرحمة الإلهية تنحرف عن المذنب باقترافه أسباب العقوبة ، فإذا تاب عادت إليه ، وعطف ربه عليه ، والتوبة تختلف باختلاف درجات الناس ، فعبدك يتوب إليك من ترك ما أمرته بفعله أو فعل ما أمرته بتركه ، وصديقك يتوب إليك ويعتذر إذا هو قصر في عمل لك فيه فائدة عما في إمكانه واستطاعته ، وولدك يتوب إذا قصر في أدب من الآداب التي ترشده إليها ؛ ليكون في نفسه عزيزا كريما ، وكذلك تختلف توبات التائبين إلى الله - تعالى - باختلاف درجاتهم في معرفته ، وفهم أسرار شريعته ، فعامة المؤمنين لا يعرفون من موجبات سخط الله - تعالى - وأسباب عقوبته إلا المعاصي التي شددت الشريعة في النهي عنها ، وإذا تابوا من عمل سيئ فإنما يتوبون منها ، وخواص المؤمنين يعرفون أن لكل عمل سيئ لوثة في النفس تبعد بها عن الكمال ، ولكل عمل صالح أثرا فيها يقربها من الله وصفاته ، فالتقصير في الصالحات يعد عند هؤلاء من الذنوب التي تهبط بالنفس وتبعدها عن الله - تعالى - ، فهي إذا قصرت فيها تتوب ، وإذا شمرت لا تأمن النقائص والعيوب ، ويختلف اتهام هؤلاء الأبرار لأنفسهم باختلاف معرفتهم بصفات النفس ، وما يعرض لها من الآفات في سيرها ، ومعرفتهم بكمال الله جل جلاله ومعنى القرب منه واستحقاق رضوانه ؛ ولذلك قال بعض العارفين : ( ( حسنات الأبرار سيئات المقربين ) ) ومن هنا نفهم معنى التوبة التي طلبها
إبراهيم وإسماعيل - عليهما وعلى آلهما الصلاة والتسليم - (
إنك أنت التواب الرحيم ) أي إنك أنت وحدك الكثير التوب على عبادك - وإن كثر تحولهم عن سبيلك - بتوفيقهم للتوبة إليك وقبول توبتهم منهم ، الرحيم بالتائبين .