(
ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) أي والسادس مما أتلوه عليكم من وصايا ربكم فيما حرم وأوجب عليكم : ألا تقربوا مال اليتيم إذا وليتم أمره أو تعاملتم به ولو بوساطة وصيه أو وليه ، إلا بالفعلة أو الأفعال التي هي أحسن ما يفعل بماله ، من حفظه وتثميره
[ ص: 167 ] وتنميته ورجحان مصلحته ، والإنفاق منه على تربيته وتعليمه ما يصلح به معاشه ومعاده ، والنهي عن قرب الشيء أبلغ من النهي عنه ; لأنه يتضمن النهي عن الأسباب والوسائل التي تؤدي إليه وتوقع فيه ، وعن الشبهات التي تحتمل التأويل فيه ، فيحذرها التقي إذ يعدها هضما لحق اليتيم ، ويقتحمها الطامع إذ يراها بالتأويل مما يحل له لعدم ضررها باليتيم ، أو لرجحان نفعها له على ضررها ، كأن يأكل من ماله شيئا بوسيلة له فيه ربح من جهة أخرى في عمل لولاه لم يربح ولم يخسر . وقد تقدم في تفسير الآيات المفصلة في اليتامى من أول سورة النساء وتفسير (
ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم ) ( 2 : 220 ) من البقرة ما يغني عن التطويل هنا في تحرير مسألة مال اليتيم ومخالطته في المعيشة والمعاملة . ( راجع ص271 وما بعدها ج 2 ط الهيئة )
وقوله تعالى : (
حتى يبلغ أشده ) هو غاية للنهي عن هذا القرب لماله ، وما فيه من المبالغة في الترهيب عن التعامل فيه - أو غاية لما يتضمنه الاستثناء ، وهو ما يقابل النهي من إيجاب حفظ ماله حتى منه هو ; فإن الولي أو الوصي لا يجوز له أن يسمح لليتيم بتبديد شيء من ماله وإضاعته أو الإسراف فيه . وبلوغ الأشد عبارة عن بلوغه سن الرشد والقوة الذي يخرج به عن كونه يتيما أو سفيها أو ضعيفا ، وقد اختلف أهل اللغة هل هو مفرد ، أو جمع لا واحد له ، أو له واحد . قال في اللسان : والأشد مبلغ الرجل الحنكة والمعرفة - وهو موافق لتفسيرنا أو حجة له ، ونقل عن
nindex.php?page=showalam&ids=13247ابن سيده : بلغ الرجل أشده إذا اكتهل ، ونقل عن علماء اللغة والشرع أقوالا في لفظه ومعناه بلغت ثلثي ورقة منه ، وملخص المعنى أن له طرفين أدناهما الاحتلام الذي هو مبدأ سن القوة والرشد ، ونهايته سن الأربعين وهي الكهولة إذا اجتمعت للمرء حنكته وتمام عقله - قال - فبلوغ الأشد محصور الأول محصور النهاية غير محصور ما بين ذلك . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي ومالك وآخرون من علماء السلف : يعني حتى يحتلم ، والاحتلام يكون غالبا بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة : وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : الأشد سن الثلاثين ، وقيل : سن الأربعين ، وقيل : الستين . والأخير باطل ، وما قبله مأخوذ من قوله تعالى : (
حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة ) ( 46 : 15 ) ولكن قال المفسرون هذا لا يظهر هنا .
وأقول : إن المراد بالنهي عن قرب مال اليتيم النهي عن كل تعد عليه وهضم له من الأوصياء وغيرهم من الناس ، خلافا لمن جعل الخطاب فيه للأولياء والأوصياء خاصة ، وحينئذ يظهر جعل ( حتى ) غاية للنهي ، وجعل " الأشد " بمعناه اللغوي وهو سن القوة البدنية والعقلية بالتجارب ، والحديث العهد بالاحتلام يكون ضعيف الرأي قليل التجارب فيخدع كثيرا . وقد كان الناس في الجاهلية كأهل هذا العصر من أصحاب الأفكار المادية
[ ص: 168 ] لا يحترمون إلا القوة ، ولا يعرفون الحق إلا للأقوياء ، فلذلك بالغ الشرع في الوصية بالضعيفين : المرأة ، واليتيم . وإنما كانت القوة التي يحفظ بها المرء ماله في ذلك الزمن قوة البدن مع الرشد العقلي ، وهو قلما يحصل بمجرد البلوغ ، وأما هذا الزمان فلا يقدر على حفظ ماله فيه ، إلا من كان رشيدا في أخلاقه وعقله وتجاربه لكثرة الغش والحيل ، وإن سفه الشبان الوارثين في
مصر مضرب المثل ، فأكثر الشبان من أبناء الأغنياء مسرفون في الشهوات ، فمتى مات من يرثونه أقبل على معاشرتهم أخدان الفسق وسماسرته ومنهومو القمار ، فلا يتركونهم إلا فقراء منبوذين ، وقلما يستيقظ أحدهم من غفلته إلا من سن الكهولة التي يكمل فيها العقل وتعرف تكاليف الحياة الكثيرة ويهتم فيها بأمر النسل ، وقد اشترط الشرع لإيتاء اليتامى أموالهم سن الحلم والرشد معا ، وظهور رشدهم في المعاملات المالية بالاختبار بقوله تعالى : (
وابتلوا اليتامى ) إلى قوله : (
فادفعوا إليهم أموالهم ) ( 4 : 6 ) وهذا خطاب للأولياء والأوصياء .