(
أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين ) تقدم مثل هذا التعليل الذي معناه قطع طريق التعلل والاعتذار والمعنى - على الخلاف في تقدير متعلق " أن " - أنزلناه لئلا تقولوا ، أو كراهة أن تقولوا أو منعا لكم من أن تقولوا يوم الحساب والجزاء معتذرين عن شرككم وإجرامكم : إنما أنزل الكتاب الهادي إلى توحيد الله ومعرفته وطريق طاعته وتزكية الأنفس من دنس الشرك والرذائل على طائفتين من قبلنا وهم
اليهود والنصارى . وإن حقيقة حالنا وشأننا أننا كنا غافلين عن دراستهم وتعليمهم لجهلنا بلغاتهم وغلبة الأمية علينا - والحصر إنما يصح بالإضافة إليهم بحسب علمهم بحال الطائفتين لمجاورتهم لهم - (
أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم ) لأننا أذكى أفئدة وأعلى همة وأمضى عزيمة ، وقد قالوا هذا في الدنيا كما حكاه تعالى
[ ص: 181 ] عنهم في آخر سورة فاطر بقوله : (
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ) ( 35 : 42 ، 43 ) إلخ . وهذا التأكيد بالقسم مبني على اعتقادهم أنهم أكمل البشر فطرة وأعلاهم استعدادا لكل فضيلة ، وكان اعتقادا راسخا في عقولهم متمكنا من وجدانهم ، ومن أدلته ما رواه التاريخ لنا من المفاخرات بين العرب
والفرس ، وإذا كانت قبائل العرب كلها تعتقد أن شعبهم أزكى من جميع الأعاجم فطرة ، وأذكى أفئدة وأعز أنفسا وأكمل عقولا وأفهاما وأفصح ألسنة وأبلغ بيانا ، فما القول
بقريش التي دانت لها العرب واعترفت بفضلها على غيرها منهم ؟ ولكن جمهور سادة
قريش وكبراءها قد استكبروا بذلك وعتوا عتوا كبيرا ، حتى كذبوا بأعظم ما فضل - والله - به جيلهم وقومهم على جميع الأجيال والأقوام بالحق - وهو القرآن - وصدوا عنه وصدفوا عن آياته ، فكان إقسامهم أنهم لو جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم المجاورة لهم حجة عليهم ، وإن صدق على غيرهم من
قريش ومن سائر العرب الذين اهتدوا بالكتاب فسادوا به جميع الأمم ، وكانوا أئمة لها في دينها ودنياها ما كانوا مهتدين به معتصمين بحبله ، وإذا كان ذلك القسم صادرا عن عقيدة راسخة ، فلا جرم أنه لو لم يأتهم النذير بهذا الكتاب المنير لاعتذروا في الآخرة بهذا العذر ، على أن المعاندين منهم ظلوا يطالبون النذير الذي جاءهم به بمثل ما أتى به من قبله من الآيات الكونية وهو - أي الكتاب - أقوى منها دلالة على النبوة لأن دلالته علمية عقلية ، ودلالاتها وضعية أو عادية على أنها تشبيه بالسحر والشعوذة وسائر الغرائب الصناعية ، وقد وضحنا الفرق بينهما في غير موضع من تفسير هذه السورة ( الأنعام ) واعتبر هنا بقوله تعالى في آخر سورة طه : (
وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى ) ( 20 : 133 ، 134 ) . (
فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة ) هذا هو الجواب القاطع لكل تعلة وعذر ، فإن
القرآن بينة عظيمة كاملة من وجوه متعددة ، فتنكير البينة وما بعدها للتعظيم ، إذ البينة ما تبين به الحق ، وهو مبين للحق من العقائد بالحجج والدلائل ، وفي الفضائل والآداب وأصول الشريعة وأمهات الأحكام بما تصلح به أمور البشر وشئون الاجتماع ، وهدى كامل لمن تدبره وتلاه حق تلاوته ، فإنه يجذبه ببيانه وبلاغته إلى الحق الذي قرره ، وإلى عمل الخير والصلاح الذي بين فوائده ومنافعه ، ورحمة عامة للبشر الذين تنتشر فيهم هدايته ، وتنفذ فيهم شريعته ، حتى الخاضعين لأحكامها من غير المؤمنين به فإنهم يكونون آمنين في ظلها على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم . أحرارا في عقائدهم وعباداتهم ، مساوين للمؤمنين بها في
[ ص: 182 ] حقوقهم ومعاملاتهم . عائشين في وسط خال من الفواحش والمنكرات التي تفسد الأخلاق وتولد الأمراض . وأما المؤمنون به فهو رحمة لهم في الدنيا والآخرة جميعا ، هكذا كان وهكذا يكون . وإنما أنزلت هذه الآية في هذه السورة والمؤمنون قليلون مضطهدون ، والجماهير مكذبون ، والرؤساء يصدون عن الكتاب ويصدفون .
(
فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف عنها ) الاستفهام هنا إنكاري ، أي وإذا كانت آيات الله مشتملة على ما ذكر من البينة الكاملة والهداية الشاملة والرحمة الخاصة والعامة ، فلا أحد أظلم ممن كذب بها وأعرض عنها ولم يكتف بصدوفه عنها وحرمان نفسه منها ، بل صدف الناس ، أي صرفهم وردهم أيضا ، كما كان يفعل كبراء مجرمي
قريش بمكة في أثناء نزول هذه السورة : كانوا يصدفون العرب عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ويحولون بينه وبينهم لئلا يسمعوا منه القرآن ، فينجذبوا إلى الإيمان ، كما قال : (
وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ) ( 26 ) وتقدم في أوائل هذه السورة . فصدف بمعنى صد ، واستعمل مثله لازما ومتعديا ، وفي معناهما الصرف والصدع ، ولا مانع عندي من استعمال صدف هنا لازما متعديا كما كانت حال أولئك الكبراء من
قريش وسائر قبائل العرب الذين اقتدوا بهم في صد الناس عن سماع القرآن ، ومنع الرسول صلى الله عليه وسلم من تبليغ الدعوة ، وهذا أقرب من استعمال المشترك في معنيين أو أكثر من معانيه إذا كانت العبارة تحتمل ذلك - إن لم يعد منه ، ومن استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه بهذا الشرط - وقد قال بهما
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير والأصوليون من الشافعية . على أن بين اللازم والمتعدي تلازما في هذا المقام فإن الصاد لغيره عن شيء يكرهه ويعادي الداعي إليه والقائم به ويكون هو أشد صدودا وإعراضا عنه . وإنما ينهى عن الشيء ويصد عنه غيره من يحبه ويأخذ به إذا كان مرائيا أو خادعا لمن ينهاه ويصرفه عنه ، كالوعاظ المرائين ، والتجار الغاشين . ومن الصد اللازم قوله تعالى في سورة النساء : (
وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ) ( 4 : 61 ) ومن المتعدي قوله تعالى في أول سورة
محمد أو القتال : (
الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم ) ( 47 : 1 ) . (
سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون ) أي سنجزي الذين يصدفون الناس ويردونهم عن آياتنا والاهتداء بها سوء العذاب ، بسبب ما كانوا يجرون عليه من الصدف عنها والاستمرار عليه ، فإنهم بذلك يحملون أوزارهم وأوزار من صدفوهم عن الحق وحالوا بينهم وبين سبب الهداية ، وقد وضع الموصول موضع الضمير فقال : (
سنجزي الذين يصدفون ) ولم يقل : سنجزيهم ، ليعلم أن هذا الوعيد إنما هو على الصدف الذي هو قطع طريق الحق على المستعدين لاتباعه ، لأنهم بهذا كانوا أظلم الناس
[ ص: 183 ] كما دل عليه الاستفهام الإنكاري في أول الآية ، لا على مجرد ظلمهم لأنفسهم بالتكذيب . وقد أكد ذلك بالتصريح بالسبب ولم يكتف بدلالة صلة الموصول عليه - فهو بمعنى قوله تعالى في سورة النحل : (
الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ) ( 16 : 88 ) أي زدناهم عذابا سيئا شديدا بصدهم الناس عن سبيل الله ، فوق العذاب على كفرهم بسبب إفسادهم في الأرض بهذا الصد عن الحق . وقال في الآية التي بعد هذه : (
ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ) ( 16 : 89 ) فهاتان الآيتان من سورة النحل بمعنى آية سورة الأنعام .