ومن المباحث الكلامية في الآية قول
الأشعرية : إن
الثواب كله بفضل الله تعالى ولا يستحق أحد من المحسنين منه شيئا ، وقول
المعتزلة : إن
الثواب هو المنفعة المستحقة على العمل والتفضل المنفعة غير المستحقة ، وإن الثواب يجب أن يكون أعظم من التفضل في الكثرة والشرف ، إذ لو جاز العكس أو المساواة لم يبق في التكليف فائدة فيكون عبثا وقبيحا ، من ثم قال
الجبائي وغيره : يجب أن تكون العشرة الأمثال في جزاء الحسنة تفضلا والثواب غيرها وهو أعظم منها . وقال آخرون : يجوز أن يكون أحد العشرة هو الثواب والتسعة تفضلا بشرط أن يكون الواحد أعظم وأعلى شأنا من التسعة . ونقول : إن هذه النظريات كلها ضعيفة ولا فائدة فيها ، وإذا كان التفضل ما زاد وفضل على أصل الثواب المستحق بوعد الله تعالى وحكمته وعدله فأي مانع أن يزيد الفرع على الأصل وهو تابع له ومتوقف عليه ، وإنما كان يكون الثواب حينئذ عبثا على تقدير التسليم لو كان التفضل يحصل بدونه فيستغنى به عنه كما هو واضح .
وقد أورد
الرازي في تفسير الآية إشكالات شرعية وأجاب عنها أجوبة ضعيفة قال : ( الأول )
كفر ساعة كيف يوجب عقاب الأبد على نهاية التغليظ . ( جوابه ) أنه كان الكافر على عزم أنه لو عاش أبدا لبقي على ذلك الاعتقاد أبدا ، فلما كان ذلك العزم مؤبدا عوقب عقاب الأبد ، خلاف المسلم المذنب فإنه يكون على عزم الإقلاع عن ذلك الذنب فلا جرم كانت عقوبته منقطعة . انتهى بنصه .
ونقول في الرد عليه : ( أولا ) إننا لا نسلم أن كل كافر يعزم أو يخطر بباله العزم المذكور ولا سيما من عرضت له عقيدة أو فعلة مما عدوه كفرا ساعة من الزمان ومات عليها ، والكفر عند المتكلمين والفقهاء لا ينحصر في جحود العناد وربما كان أكثر الكفار يعتقدون أنهم مؤمنون ناجون عند الله تعالى . ( ثانيا ) أن كون العقاب الأبدي على العزم المذكور يحتاج إلى نص ، والعقل لا يوجبه بل لا يوجب عند
الأشعرية حكما ما من أحكام الشرع ، وهذا الإشكال لا يرد على ما جرينا عليه هنا تبعا لما وضحناه مرارا من كون
الجزاء على قدر تأثير الاعتقاد والعمل في النفس . ( ثالثها ) قد تنصل بعض العلماء من هذا الإشكال بمثل ما نقلناه في تفسير (
خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم ) ( 128 ) وهو يرجع إلى قولين : أحدهما نفي كون العذاب أبديا لا نهاية له ، وثانيهما تفويض الأمر فيه إلى حكمة الله تعالى وعلمه .
[ ص: 209 ] ثم قال : ( الثاني ) إعتاق الرقبة الواحدة ، تارة جعل بدلا عن صيام ستين يوما وهو في كفارة الظهار ، وتارة جعل بدلا عن صيام أيام قلائل ، وذلك يدل على أن المساواة غير معتبرة . ( جوابه ) أن المساواة إنما تحصل بوضع الشرع وحكمه اهـ .
ونقول : إن جعل الشرع العتق كفارة لذنوب متفاوتة إنما لعنايته بتحرير الرقيق ، وهو لا ينافي كون كل ذنب منها له جزاء في الآخرة بقدره ، يشير إليه تفاوت الكفارة بالصيام .
ثم قال : ( الثالث ) إذا
أحدث في رأس إنسان موضحتين وجب فيه أرشان فإن رفع الحاجز بينهما صار الواجب أرش موضحة واحدة فهاهنا ازدادت الجناية وقل العقاب فالمساواة غير معتبرة . ( وجوابه ) أن ذلك من باب تعبدات الشرع وتحكماته اهـ .
ونقول : إن ما ذكره من القصاص في شجة الرأس
الموضحة ( وهي ما كشف العظم ) والموضحتين ليس مما ورد فيه نص الشرع بكتاب ولا سنة وتعبدنا به تعبدا ، وإنما ورد في الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=919848أرش الموضحة خمس من الإبل ، فإذا شج رجل رجلا موضحتين ثم أزال هو أو غيره الحاجز بينهما فصار كالموضحة الواحدة لا نسلم أن الحكم يتبدل فيصير الواجب أرش موضحة واحدة كما قال ، وإن قاله معه مائة فقيه مثله .
ثم قال : ( الرابع ) إنه يجب في مقابلة تفويت كل واحد من الأعضاء دية كاملة ثم إذا قتله وفوت كل الأعضاء وجبت دية واحدة وذلك يمنع القول من رعاية المماثلة ( وجوابه ) أن ذلك من باب تعبدات الشرع وتحكماته اهـ .
ونقول فيه : إنه هو وما قبله ليس من تعبدات الشرع وتحكماته كما زعم بادي الرأي بغير روية ; وذلك أن القتل يوجب القصاص لا الدية إذا كان عن تعمد ، إلا أن يعفو ولي لدم ويرضى بالدية . وفساد قتل الخطأ الموجب للدية دون فساد قطع اليد أو الرجل أو قلع العين تعمدا ; على أن
عقوبات الدنيا لا يجب أن تكون معيارا لعقوبات الآخرة فإنها يراعى فيها من مصالح العباد ما لا محل له في الآخرة ، كقطع يد السارق بشرطه يراعى فيه ردع المجرمين وتخويفهم من عاقبة هذا العمل الذي يزيل أمن الناس على أموالهم ويسلب راحتهم ويكلفهم بذل مال كثير وعناء عظيم في حفظ أموالهم - وبهذا المعنى يستوي سارق الدينار أو ربع الدينار وسارق الألوف من الدنانير والجواهر ، وحسبنا هذا التنبيه هنا .