(
قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون )
هذا ضرب آخر من محاجة
أهل الكتاب جار على نسق سابقه مؤتلف معه متصل به غير منقطع ولا نازل في واقعة خاصة للرد على كلمات قالها
اليهود كما ذهب إليه (
الجلال ) وغيره إذ قالوا : إن
اليهود قالوا يجب أن يكون جميع الناس تابعين لنا في الدين ؛ لأن الأنبياء منا والشريعة نزلت علينا ، ولم يعهد في العرب أنبياء ولا شرائع ، نعم لا ننكر صدور هذا القول من
اليهود ، فإنهم كانوا يقولون مثله دائما ، وإنما نقول : إن الآيات متناسقة مع ما قبلها متممة له ، مزيلة لشبهات كانت فاشية في القوم في كل مكان ، لا خاصة برد قول لأحد يهود
الحجاز .
الآيات السابقة بينت أن الملة الصحيحة هي ملة
إبراهيم ، وهي لم تكن يهودية ولا نصرانية ، وإنما هي صبغة الله التي لا صنع لأحد فيها ، بل هي بريئة من اصطلاحات الناس وتقاليد الرؤساء فهي الجديرة بالاتباع ، ولكن التقاليد والأوضاع قد طمستها بعدما جرى الأنبياء عليها .
وحلت تلك التقاليد محلها حتى ذابت هي فيها ، وخفيت فلم تعد تعرف ، ولذلك جاء
محمد [ ص: 401 ] - عليه الصلاة والسلام - ببيانها ، ودعوة الناس إلى الرجوع إليها ، فيبين - تعالى - بتلك المحاجة الحق الذي يجب التعويل عليه ، ثم أخذ في هذه الآيات يزيل الموانع ويبطل الشبهات المعترضة في طريق ذلك الحق ، فأمر نبيه بما ترى من الحجة في قوله : (
قل أتحاجوننا في الله ) بدعواكم الاختصاص بالقرب منه ، وزعمكم أنكم أبناء الله وأحباؤه ، وأنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ، ومن أين جاءكم هذا القرب والاختصاص بالله دوننا (
وهو ربنا وربكم ) ورب العالمين ،
فنسبة الجميع إليه واحدة : هو الخالق وهم المخلوقون ، وهو الرب وهم المربوبون ، وإنما يتفاضلون بالأعمال البدنية والنفسية (
ولنا أعمالنا ) التي تختص آثارها بنا إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر (
ولكم أعمالكم ) كذلك ، وروح الأعمال كلها الإخلاص ، فهو وحده الذي يجعلها مقربة لصاحبها من الله ووسيلة لمرضاته (
ونحن له مخلصون ) من دونكم ، فإنكم اتكلتم على أنسابكم وأحسابكم ، واغتررتم بما كان من صلاح آبائكم وأجدادكم ، واتخذتم لكم وسطاء وشفعاء منهم تعتمدون على جاههم ، مع انحرافكم عن صراطهم ، وما هو إلا
التقرب إلى الله - تعالى - بإحسان الأعمال ، مع الإخلاص المبني على صدق الإيمان ، وهو ما ندعوكم إليه الآن ، فكيف تزعمون أن الإدلاء إلى ذلك السلف الصالح بالنسب ، والتوسل إليهم بالقول هو الذي ينفع عند الله - تعالى - وأن الاستقامة على صراطهم المستقيم والتوسل إلى الله - تعالى - بما كانوا يتوسلون إليه به من صالح الأعمال والإخلاص في القلب لا ينفع ولا يفيد ، وما كان سلفكم مرضيا عند الله - تعالى - إلا به ؟
هل كان إبراهيم مقربا من الله - تعالى - بأبيه ( آزر ) المشرك ، أم كان قربه وفضله بإخلاصه وإسلام قلبه إلى ربه ؟ فكما جعل الله النبوة في
إبراهيم وجعله إماما للناس في الإسلام والإخلاص جعلها كذلك في
محمد - صلى الله عليه وسلم - فإذا صح لكم إنكار نبوة
محمد ؛ لأنه لم يكن في سلفه العرب أنبياء فأنكروا نبوة
إبراهيم ، فإن العلة واحدة ، فكيف لا يتحد المعلول ؟
وحاصل معنى الآية :
إبطال معنى شبهة أهل الكتاب أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وأنه لا ينجو من كان على غير طريقتهم ، وإن أحسن في عمله وأخلص في قصده ، وأنهم هم الناجون الفائزون وإن أساءوا عملا ونية ؛ لأن أنبياءهم هم الذين ينجونهم ويخلصونهم بجاههم ، فالفوز عندهم بعمل سلفهم لا بصلاح أنفسهم ولا أعمالهم ، وهذا الاعتقاد هدم لدين الله الذي بعث به جميع أنبيائه ودرج عليه من اتبع سبيلهم ، فإن روح الدين الإلهي وملاكه هو التوحيد والإخلاص المعبر عنه بالإسلام ،
وكل عمل أمر به الدين فإنما الغرض منه إصلاح القلب والعقل بسلامة الاعتقاد وحسن القصد ، فإذا زال هذا المعنى وحفظت جميع الأعمال الصورية فإنها لا تفيد شيئا ، بل إنها تضر بدونه ، لأنها تشغل الإنسان بما لا يفيد ، وتصده عن المفيد
[ ص: 402 ] ولا شك أن
أهل الكتاب كانوا قد أزهقوا هذا الروح الإلهي من دينهم ، فسواء كان ما حفظوه من التقاليد والأعمال مأثورا عن أنبيائهم أم غير مأثور ، إنهم ليسوا على دين الله ، ومن كان على بصيرة منهم عرف أن ما جاء به
محمد - صلى الله عليه وسلم - هو إحياء لروح الدين الذي كان عليه جميع الأنبياء والمرسلين ، وتكميل لشرائعه وآدابه بما يصلح لجميع البشر في كل زمان ومكان .
ثم إن من تأمل هذا وتأمل حال المسلمين يظهر له أنهم قد اتبعوا سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع ، وسيرجع من يريد الله بهم الخير إلى دين الله - تعالى - بالرجوع إلى كتابه الذي حرم عليهم تقليد آراء الناس فجاوزوه بأن حرموا العمل به ، كما رجع الألوف وألوف الألوف من
أهل الكتاب إلى ذلك في القرون الأولى من ظهور الإسلام ، وسيرجع غيرهم من سائر البشر إليه فيعم العالمين (
ولتعلمن نبأه بعد حين ) ( 38 : 88 )