[ ص: 231 ] خلاف العلماء في المسألة :
الخلاف بين العلماء في المسألة مشهور . وقد ذكره
ابن القيم في أول المسألة الـ16 وهي :
هل تنتفع أرواح الموتى بشيء من سعي الأحياء أم لا ؟ وذكر في الجواب أنها تنتفع من سعي الأحياء في أمرين مجمع عليهما من أهل السنة ، أحدهما : ما تسبب إليه في حياته ، والثاني : دعاء المسلمين له واستغفارهم له . ( قال ) والصدقة والحج على نزاع : ما الذي يصل من ثوابه ! هل هو ثواب الإنفاق أم ثواب العمل ؟ فعند الجمهور : يصل ثواب العمل نفسه ، وعند بعض الحنفية : إنما يصل ثواب الإنفاق . ثم ذكر اختلافهم في العبادة البدنية كالصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر ، وزعم أن مذهب
أحمد وجمهور السلف وصولها ، واستدل على مذهب
أحمد بأنه قيل له : الرجل
يعمل الشيء من الخير من صلاة أو صدقة أو غير ذلك فيجعل نصفه لأبيه أو لأمه . قال : أرجو . وأنت ترى أن
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد رحمه الله لم يجزم بالجواب ، وأن موضوع السؤال انتفاع الوالدين بعمل الولد خاصة ، وليس في رجائه خروج عن النص إلا في مسألة الصلاة - ثم قال : والمشهور من مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي ومالك أن ذلك لا يصل . وذكر أن بعض أهل البدع من المتكلمين على أنه لا يصل إلى الميت شيء ، لا دعاء ولا غيره ؟ .
( أقول ) : راجعت بعد كتابة ما تقدم كتاب الفروع من كتب الحنابلة فرأيت فيه خلافا كثيرا في هذه المسألة عن علماء الحنابلة وغيرهم ، أحسنه وأولاه باتباع السنة قول شيخ الإسلام قدس الله روحه في بحث إهداء الثواب . وقد ذكر قبله كلاما في عدم جواز
الإيثار بالفضائل والدين للوالدين ، وقول بعضهم بجواز بعضه في حال الحياة كتقديم والده في الصف الأول - وكلاما في الفرق بين الإيثار بما أحرزه وما لم يحرزه ، ثم قال : " وقال شيخنا لم يكن من عادة السلف إهداء ذلك إلى موتى المسلمين ، بل كانوا يدعون لهم فلا ينبغي الخروج عنهم ; ولهذا لم يره شيخنا كمن له أجر العالم كالنبي صلى الله عليه وسلم معلم الخير بخلاف الوالد لأن له أجرا لا كأجر الولد ; لأن العامل يثاب على إهدائه فيكون له مثله أيضا ، فإن جاز إهداؤه فهلم جرا ، ويتسلسل ثواب العامل الواحد ، وإن لم يجزم فما الفرق بين عمل وعمل ، وإن قيل يحصل ثوابه مرتين للمهدي إليه ولا يبقى للعامل ثواب فلم يشرع الله لأحد أن ينفع غيره في الآخرة ولا منفعة له في الدارين فيتضرر ( كذا ) ولا يلزم دعاؤه له ونحوه ; لأنه مكافأة له كمكافأته لغيره ، ينتفع به المدعو له وللعامل أجر المكافأة وللمدعو له مثله فلم يتضرر ولم يتسلسل ولا يقصد أجره إلا من الله " اهـ .
وذكر أيضا أن أقدم من بلغه أنه أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم
علي بن الموفق أحد الشيوخ المشهورين من طبقة
أحمد وشيوخ
الجنيد ، ثم نقل صاحب الفروع عن تاريخ
الحاكم [ ص: 232 ] مثل ذلك عن
أبي العباس محمد بن إسحاق السراج النيسابوري وقد بينا أن
الصحابي إذا انفرد بقول أو عمل لا يعد أحد من المسلمين قوله أو عمله حجة أو يتخذه قدوة فيه ، فكيف بمن بعد تابع التابعين - فكيف إذا كان ذلك مخالفا للنصوص الصريحة في الكتاب السنة .
وقد ذكر
ابن عابدين محرر مذاهب الحنفية هذه المسألة في أواخر تنقيح الفتاوى الحامدية ، فذكر إجماع العلماء على نفع الدعاء وخلافهم في
وصول ثواب القراءة واختيار الوصول والاستدلال عليه بحديث "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919861إذا مات العبد انقطع عمله " إلخ . وهو لا يدل عليه بإطلاق بل على عدمه كما علمت ، ثم ذكر أن الحافظ
ابن حجر سئل عمن قرأ شيئا من القرآن وقال في دعائه : اللهم اجعل ثواب ما قرأته أو مثل ثواب ما قرأته زيادة في شرف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما معنى الزيادة مع كماله صلى الله عليه وسلم ؟ قال فأجاب بقوله : هذا مخترع من متأخري القراء لا أعرف لهم سلفا ولكنه ليس بمحال كما تخيله السائل ، فقد ذكر في رؤية
الكعبة : اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما إلخ . فلعل المخترع المذكور قاسه على ذلك وكأنه لحظ أن معنى طلب الزيادة أن تتقبل قراءته فيثيبه عليها وإذا أثيب أحد من الأمة على فعل طاعة من الطاعات كان للذي علمه نظير أجره وللمعلم الأول وهو الشارع صلى الله عليه وسلم جميع ذلك ، فهذا معنى الزيادة في شرفه وإن كان شرفه مستقرا حاصلا اهـ .
ونقول : حسبنا من الحافظ - أثابه الله - أن هذا مخترع من بعض المتأخرين لم يرد عن أحد من سلف الأمة ، فهو إمام النقل وحافظ السنة بلا نزاع ، وأما قياس هذا الدعاء على الدعاء بزيادة شرف البيت فهو قياس في أمر تعبدي لا محل له ، وقد يفرق بينهما ، فإن معنى زيادة شرف البيت وتعظيمه حقيقة واقعة بكثرة من يحجه ويعبد الله فيه ، وزيادة ثواب المعلم المرشد بعمل من أخذ بعلمه وهديه لا يسمى شرفا في اللغة إلا بضرب من التجوز ، على أنه ليس مما نحن بصدده .
ثم قال
ابن عابدين : وقد أجاز بعض المتأخرين
كالسبكي والبارزي وبعض المتقدمين من الحنابلة
nindex.php?page=showalam&ids=13372كابن عقيل تبعا
لعلي بن الموفق وكان في طبقة
الجنيد ولأبي العباس محمد بن إسحاق السراج النيسابوري من المتقدمين
إهداء ثواب القرآن له عليه الصلاة والسلام الذي هو تحصيل الحاصل ،
والعز بن عبد السلام من المجيزين ، وقال
ابن تيمية : لا يستحب بل هو بدعة ، وقال
ابن قاضي شهبة : يمنع ،
وابن العطار : ينبغي أن يمنع ، وقال
ابن الجزري : لا يروى عن السلف ونحن بهم نقتدي . ثم قال بجوازه بل باستحبابه قياسا على ما كان يهدى إليه في حال حياته من الدنيا ، ولما طلب الدعاء من
عمر رضي الله عنه وحث الأمة على الدعاء له بالوسيلة عند الأذان ، ثم قال : فإن لم تفعل ذلك فقد اتبعت ، وإن فعلت فقد قيل به اهـ .
[ ص: 233 ] كلام
ابن الجزري . وقال
الكمال بن حمزة الحسيني : الأحوط الترك . من كنز الراغبين للبرهان التاجي ملخصا ، فهذا ملخص ما ذكره
ابن عابدين ، وحيا الله مرجحي اتباع السلف من هؤلاء العلماء كلهم ، وليس هو الأحوط فقط بل المتعين الذي يرد كل ما خالفه ويضرب بأقيسة المخالفين عرض الحائط ، لا لمخالفتها هدي سلف الأمة فقط ، بل لظهور بطلانها ومصادمتها للنصوص أيضا فإن قياس إهداء العبادات أو ثوابها في الآخرة على إهداء متاع الدنيا قياس مع الفارق ، والفرق بينهما كالفرق بين العبادة والعادة وبين الدنيا والآخرة ، فكيف وهو مصادم للنص ، وحسبنا اتباع السلف في فهم القرآن والعمل به :
فكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف
ثم أقول : وقد اضطرب كلام
الشوكاني من أئمة فقه الحديث عند الكلام على أحاديث المسألة في مواضع فاغتر بالإطلاق ، ولكنه اهتدى إلى الصواب فيما كتبه على أحاديث المنتقى في باب ما يهدى من القرب إلى الموتى ، وكلها واردة في تصدق الأولاد عن الوالدين كما تقدم في الصيام والحج قال :
" وأحاديث الباب تدل على أن
الصدقة من الولد تلحق الوالدين بعد موتهما بدون وصية منهما ويصل إليهما ثوابها فيخصص بهذه الأحاديث عموم قوله تعالى : (
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) ( 53 : 39 ) ولكن ليس في أحاديث الباب إلا لحوق الصدقة من الولد ، وقد ثبت أن ولد الإنسان من سعيه فلا حاجة إلى التخصيص ، وأما من غير الولد فالظاهر العمومات القرآنية أنه لا يصل ثوابه إلى الميت ، فيوقف عليها حتى يأتي دليل يقتضي تخصيصها " ثم ذكر خلاف العلماء في المسألة .