هذا وإننا نختم هذا البحث بأحاديث اغتر بها بعض القائلين
بانتفاع الموتى بكل ما يعمل لأجلهم أو يهدى إليهم من ثواب غيرهم .
( 1 ) حديث
وضع النبي صلى الله عليه وسلم الجريدتين على القبرين اللذين أوحي إليه أن أصحابهما يعذبان . قال بعضهم : إنه يستأنس به لانتفاع الموتى بعمل الأحياء ، ولم يقل : إنه يدل على ذلك ، ونحن نقول : إنه لا يقوم دليلا ولا استئناسا فإنه واقعة حال في أمر غيبي غير معقول المعنى ، والظاهر فيه أنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم .
( 2 ) حديث
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس عند
أبي داود nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه nindex.php?page=hadith&LINKID=919862أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول : لبيك عن شبرمة . قال " من شبرمة ؟ " قال : أخ لي أو قريب لي ، قال " حججت عن نفسك ؟ " قال : لا . قال " حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة " قال الحافظ في بلوغ المرام : صححه
nindex.php?page=showalam&ids=13053ابن حبان والراجح عند
أحمد وقفه . وفي عون المعبود : رجح
nindex.php?page=showalam&ids=14695الطحاوي وقفه وقال
أحمد رفعه خطأ ، وقال
ابن المنذر : لا يثبت رفعه . وأقول :
[ ص: 234 ] إن في سنده
قتادة عن
عزرة ولم ينسب
عزرة إلى والد ولا بلد ، وقد قال
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي : إن عزرة الذي روى عنه
قتادة ليس بالقوي . فترجح بهذا أنه
عزرة بن تميم ، لأن
قتادة قد انفرد بالرواية عنه كما قال
الخطيب ، ذكر ذلك في التهذيب . وقال الحافظ في تهذيب التهذيب في ترجمة
عزرة بن عبد الرحمن : وأما الحديث الذي رواه
أبو داود nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه من طريق
nindex.php?page=showalam&ids=16513عبدة بن سليمان ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=12514سعيد بن أبي عروبة ، عن
قتادة ، عن
عزرة ، عن
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير في قصة
شبرمة فوقع عندهما
عزرة غير منسوب ، وجزم
البيهقي بأنه
عزرة بن يحيى ، ونقل عن
nindex.php?page=showalam&ids=12250أبي علي النيسابوري أنه قال : روى
قتادة أيضا عن
عزرة بن ثابت وعن
عزرة بن عبد الرحمن وعن هذا -
فقتادة قد روى عن ثلاثة كل منهم اسمه
عزرة ، فقول
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي في التمييز "
عزرة الذي روى عنه
قتادة ليس بذلك القوي " لم يتعين في
عزرة بن تميم كما ساقه فيه المؤلف فليتفطن لذلك . ( قلت )
وعزرة بن يحيى لم أر له ذكرا في تاريخ
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري اهـ .
ونقول : قد تفطنا لما ذكره الحافظ فوجدنا لجرح
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي له مخرجا ، وهو أن كلا من
عزرة بن ثابت وعزرة بن عبد الرحمن قد وثقا .
nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي ممن وثقوا الأول . فتعين أن يكون المجروح غيرهما ، فهو إما
ابن تميم وإما
ابن يحيى المجهول - فكيف نأخذ بحديث موقوف انفرد به مثل هذين الراويين في مسألة مخالفة لنصوص القرآن الكثيرة .
( 3 ) حديث
nindex.php?page=showalam&ids=249معقل بن يسار "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919863اقرءوا " يس " على موتاكم " قال في المنتقى : رواه
أبو داود ،
nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه ،
وأحمد ولفظه "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919864يس قلب القرآن لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له واقرءوها على موتاكم " قال
الشوكاني في شرحه له : الحديث أخرجه
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي nindex.php?page=showalam&ids=13053وابن حبان وصححه وأعله
nindex.php?page=showalam&ids=12858ابن القطان بالاضطراب وبالوقف وبجهالة حال
أبي عثمان وأبيه في السند ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني : هذا حديث ضعيف الإسناد مجهول المتن ولا يصح في الباب حديث اهـ .
أقول : إن اللفظ الأول للحديث
لأبي داود والأخير
لأحمد فيما يظهر فإن لفظ
nindex.php?page=showalam&ids=13478ابن ماجه nindex.php?page=hadith&LINKID=2003329 " اقرءوها عند موتاكم " يعني " يس " ،
nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي لم يخرجه في سننه بل في عمل اليوم والليلة
nindex.php?page=showalam&ids=13053وابن حبان يتساهل في التصحيح فيتثبت في تصحيحه ، وإن لم يوجد نص للنقاد في معارضته فيه فكيف إذا صرح جهابذة النقاد بمعارضته والجرح مقدم على التعديل ؟ فكيف إذا كان الحديث الذي صرحوا بعدم صحته مخالفا للآيات الصريحة وما في معناها من الأحاديث الصحيحة ؟ ولكن الذين أخذوا قول بعض العلماء بجواز
العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال لا يميزون بين فضائل الأعمال التي تشملها النصوص العامة وبين ما تدل هذه النصوص على عدم جوازه ، بل على حظره وكونه بدعة مخالفة لأصول الشريعة ، ولذلك تجد قراءة سورة يس على القبور قد عم المشارق والمغارب وصار كالسنن الصحيحة المتبعة لما للأنفس من الهوى في ذلك .
[ ص: 235 ] ثم إن معنى الحديث على عدم صحته متنا وسندا :
القراءة عند الميت ، أي الذي حضره الموت كما صرح به رواة الحديث
nindex.php?page=showalam&ids=13053ابن حبان وغيره ، وصرحوا بأن حكمته سماع ما في السورة من ذكر البعث ولقاء الله تعالى ليكون آخر ما تشتغل به نفس الميت . وقد أورده
أبو داود في ( باب القراءة عند الميت )
nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه في ( باب ما جاء فيما يقال عند المريض إذا احتضر ) وقال صاحب عون المعبود شرح سنن
أبي داود عند عبارة "
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003330على موتاكم " أي الذين حضرهم الموت ، ولعل الحكمة في قراءتها أن يستأنس المحتضر بما فيها من ذكر الله وأحوال القيامة والبعث . قال الإمام
الرازي في التفسير الكبير : الأمر بقراءة يس على من شارف الموت مع ورود قوله صلى الله عليه وسلم "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919865لكل شيء قلب وقلب القرآن يس " إيذان بأن اللسان حينئذ ضعيف القوة وساقط المنة لكن القلب أقبل على الله بكليته فيقرأ عليه ما يزاد به قوة قلبه ويشتد تصديقه بالأصول . فهو إذا عمله ومهمه ، قاله
القارئ اهـ .
وأقول : إن
ابن القيم ذكر هذا الحديث في أوائل كتاب الروح وحقق هذا المعنى الذي قاله علماء المنقول وعلماء المعقول بما أربى به على الفريقين . قال نفعنا الله بعلومه " وفي
nindex.php?page=showalam&ids=15397النسائي وغيره من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=249معقل بن يسار المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919866اقرءوا يس عند موتاكم " وهذا يحتمل أن يراد به قراءتها على المحتضر عند موته مثل قوله "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919867لقنوا موتاكم لا إله إلا الله " ويحتمل أن يراد به القراءة عند القبر . والأول أظهر لوجوه : ( أحدها ) أنه نظير قوله
nindex.php?page=hadith&LINKID=919867 " لقنوا موتاكم لا إله إلا الله " . ( الثاني )
انتفاع المحتضر بهذه السورة لما فيها من التوحيد والمعاد والبشرى بالجنة لأهل التوحيد وغبطة من مات عليه بقوله : (
ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ) ( 36 : 26 ، 27 ) فيستبشر الروح بذلك فيحب لقاء الله فيحب الله لقاءه ، فإن هذه السورة قلب القرآن ، ولها خاصية عجيبة في قراءتها عند المحتضر ، وقد ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=11890أبو الفرج بن الجوزي قال : كنا عند شيخنا
nindex.php?page=showalam&ids=11925أبي الوقت عبد الأول وهو في السياق ، وكان آخر عهدنا به أنه نظر إلى السماء وضحك وقال : (
ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ) وقضى .
( الثالث ) أن هذا
عمل الناس وعادتهم قديما وحديثا ، يقرءون " يس " عند المحتضر .
( الرابع ) أن الصحابة لو فهموا من قوله صلى الله عليه وسلم "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919866اقرءوا يس عند موتاكم " قراءتها عند القبر لما أخلوا به وكان ذلك أمرا معتادا مشهورا بينهم .
( الخامس ) أن انتفاعه باستماعها وحضور قلبه وذهنه عند قراءتها في آخر عهده بالدنيا
[ ص: 236 ] هو المقصود ، وأما قراءتها عند قبره فإنه لا يثاب على ذلك ، لأن الثواب إما بالقراءة أو بالاستماع وهو عمل ، وقد انقطع من الميت اهـ .
أقول : هذا التحقيق كاف في بابه ولا ينافيه ما ذكره قبله في
قراءة فاتحة البقرة وخاتمتها عند رأس الميت عند دفنه - وهو أثر مروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر رضي الله عنه أنه أوصى به - فإنه في معنى
تلقين التوحيد قبل الموت وهو صحيح ،
والتلقين بعد الدفن والحديث فيه ضعيف ، وإلا فهو باطل ، وقد انفرد بروايته
nindex.php?page=showalam&ids=16875مبشر الحلبي عن
عبد الرحمن بن العلاء اللجلاج ولم يرو عن
عبد الرحمن أحد غير مبشر هذا ، وغاية ما قالوا فيه إنه مقبول ، وليس له في دواوين السنة غير حديث واحد عند
الترمذي . والصواب أنه لا ينقض قول
nindex.php?page=showalam&ids=12251الإمام أحمد أن
القراءة عند القبر بدعة ، وإنما يخصص عمومه بورود القراءة عن بعضهم عند دفن الميت فقط على ما فيه من الشذوذ .
ومما ذكرناه يعلم سبب اختلاف الحنابلة في المسألة ، قال
ابن مفلح في كتاب الفروع : ( فصل ) لا تكره
القراءة على القبر وفي المقبرة نص عليه ، اختاره
أبو بكر والقاضي وجماعة وهو المذهب ( خلافا
nindex.php?page=showalam&ids=13790للشافعي ) وعليه العمل عند مشايخ الحنفية ، فقيل : تباح . وقيل : تستحب ، قال
ابن تميم . نص عليه
كالسلام والذكر والدعاء والاستغفار وعنه لا يكره وقت دفنه ، وعنه يكره اختاره
nindex.php?page=showalam&ids=16504عبد الوهاب الوراق وأبو حفص ( وفاقا
لأبي حنيفة ومالك ) قال شيخنا : نقلها جماعة وهو قول جمهور السلف وعليها قدماء أصحابه ( أي أصحاب
أحمد ) . . . قال
ابن عقيل :
أبو حفص يغلب الحظر ( أي كونها حراما ) ثم هاهنا ذكر وصية
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر بقراءة فاتحة البقرة وخاتمتها على رأسه عند دفنه ، التي هي سبب رجوع
أحمد عن حظر القراءة مطلقا ، والخلاف في نذر القراءة بناء على هذا الخلاف . وقول
المروذي بناء على الحظر فيمن
نذر أن يقرأ عند قبر أبيه : يكفر عن يمينه ولا يقرأ - ثم قال : وعنه ( أي الإمام
أحمد ) بدعة لأنه ليس من فعله عليه السلام وفعل أصحابه فعلم أنه محدث ، وسأله
عبد الله ( أي ابنه )
يحمل مصحفا إلى المقبرة فيقرأ فيه عليه ؟ قال : بدعة ، قال شيخنا : ولم يقل أحد من العلماء المعتبرين أن القراءة عند القبر أفضل ولا رخص في اتخاذه عيدا كاعتياد القراءة عنده في وقت معلوم أو الذكر أو الصيام ، قال : واتخاذ المصاحف عندها ولو للقراءة فيها بدعة ، ولو نفع الميت لفعله السلف " اهـ . ولهؤلاء العلماء الأعلام نصوص في بطلان الوقت على قراءة القرآن عند القبور كبطلانه على ما نهى عنه الشرع من تشييدها والبناء وإيقاد السرج عليها ونحو ذلك من البدع التي صارت عند الجماهير في عداد السنن ، بل يهتمون لهما ما لا يهتمون للفرائض للأهواء الموروثة في ذلك . وإذ قد علمت أن حديث قراءة سورة " يس " على الموتى غير صحيح وإن أريد
[ ص: 237 ] به من حضرهم الموت ، وأنه لم يصح في هذا الباب حديث قط كما قال المحقق
nindex.php?page=showalam&ids=14269الدارقطني ، فاعلم أن ما اشتهر وعم البدو والحضر من
قراءة الفاتحة للموتى لم يرد فيه حديث صحيح ولا ضعيف ، فهو من البدع المخالفة لما تقدم من النصوص القطعية ولكنه صار بسكوت اللابسين لباس العلماء وبإقرارهم له ثم بمجاراة العامة عليه من قبيل السنن المؤكدة أو الفرائض المحتمة .