شبهات الكفار على الوحي والرسالة
هذا
الغلو من بعض الناس في الأنبياء والرسل يقابله غلو آخرين منهم في إنكار رسالتهم واختصاص الله تعالى إليهم بوحيه إليهم ، فأولئك الغلاة أفرطوا في تصوير خصوصيتهم ، وزادوا فيها بأوهامهم وأهوائهم ، وهؤلاء فرطوا فيها ، فلم يروا لهم مزية يمتازون على غيرهم بها ، أولئك زادوا في بيان " حقيقتهم فضلا فصلهم من نوع الإنسان ، وهؤلاء جعلوا بشريتهم مانعة من امتيازهم على سائر أفراد الناس ، إذ رأوهم بشرا وظنوا أن الوحي يخرجهم منها فيجعلهم كالملائكة كما يزعم الغلاة - قال تعالى في هذه السورة : (
وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء ) ( 91 ) أي إنهم ما عرفوا الله حق معرفته ولا عظموه حق تعظيمه بإنكارهم قدرته على إنزال شيء من العلم على قلوب بعض البشر ، لاقتضاء علمه وحكمته أن يكونوا معلمين لسائر البشر ما فيه هدايتهم ، كما أن الغلاة فيهم ما قدروا الله حق قدره إذ زعموا أنه جعلهم شركاء له في علم الغيب ، والتصرف في ملكه بالعطاء والمنع .
وقد بينا في تفسير هذه الآية حقيقة الوحي ووجه حاجة البشر إليه ، واقتضاء حكمة الله وفضله الإنعام عليهم به فراجعه في ( ص 509 ج 7 ط الهيئة تفسير ) وهذه الشبهة شبهة كونهم بشرا قد ذكرت في سور كثيرة عند الكلام على رسالة الرسل كالأعراف وإبراهيم والنحل والكهف والأنبياء والشعراء ويس والتغابن ، وذكرت في بعض السور بلفظ رجل
[ ص: 246 ] بدل بشر كقوله تعالى في أول سورة يونس : (
الر تلك آيات الكتاب الحكيم أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس ) ( 10 : 1 ، 2 ) إلخ . وهذا في نبينا صلى الله عليه وسلم ومثله عن أول من كذبوا الرسل وهم
قوم نوح . قال تعالى في قصته من سورة الأعراف حكاية لخطابه إياهم : (
أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ) ( 7 : 63 ) ويليه حكاية مثل ذلك عن
هود مع قومه ( آية 67 ) .
ولما استبعد هؤلاء الوحي لرجل من البشر كما حكاه عنهم في قوله : (
ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون ) ( 23 : 33 ، 34 ) زعموا أن الرسول من الله يجب أن يكون ملكا أو أن يؤيد بملك يكون معه كما حكاه عنهم بقوله : (
وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ) ( 25 : 7 ) وقد ردت هذه الشبهة في الآيتين الثامنة والتاسعة من هذه السورة ببيان سنة الله تعالى في إنزال الملائكة ، وببيان عدم استعداد جمهور البشر لرؤيتهم والتلقي عنهم في الدنيا ، وإنما يعد الله بعض الأفراد من كملتهم لذلك ، فلا مندوحة إذا أنزل الملك عن جعله رجلا ، أي متمثلا في صورة رجل ، وحينئذ يلتبس عليهم الأمر وتبقى شبهتهم في موضعها .
هذه الشبهة على الرسالة وهي
كون الرسول بشرا مثل المرسل إليهم لم تدعم بحجة ولم تؤيد ببرهان ، بل هي باطلة بالبداهة لأنها تقييد لمشيئة المرسل وقدرته وهو الفعال لما يريد (
يختص برحمته من يشاء ) وقد كان أولئك المشتبهون مؤمنين بقدرته التامة ومشيئته العامة . بل كون الرسول إلى البشر بشرا مثلهم يفهمون أقواله ويتأسون بأفعاله هو المعقول الذي تقتضيه الفطرة وطبيعة الاجتماع ، ولكن الأوهام الجهلية تقلب الحقائق وتعكس القضايا حتى إن بعض القرويين في زماننا جاء إحدى المدن مرة فرأى الناس مجتمعين للاحتفال بوال جديد جاء من دار السلطنة ، فرغب أن يرى بعينيه الوالي الذي أرسله السلطان إليهم ، فلما مر أمامه وقيل له هذا هو استغرب أن يكون إنسانا ، وقال كلمة صارت مثلا وهي : حسبنا الوالي واليا فإذا هو إنسان أو رجل مثلنا .
وأخبرني
محمود باشا الداماد أن بعض فلاحي
الأناضول يتخيلون أن خلق السلطان مخالف لخلق سائر الناس وأن لحيته خضراء اللون ، ولهذا الضعف في كثير من البشر يلبس بعض رجال الأديان أزياء خاصة مؤثرة ، ويوفرون شعورهم لأجل استجلاب المهابة - فقوله تعالى : (
ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ) ( 6 : 9 ) كاشف لهذه الغمة من الوهم ، وهاد إلى ما يوافق سنن الفطرة من العلم ، وقاطع على الدجالين طريق الجبت والخرافات
[ ص: 247 ] التي يخدعون بها أولي الأوهام والخيالات ، فيوهمونهم أن الأولياء والقديسين فوق مرتبة البشر ، ويقدرون على ما لا يقدر عليه غيرهم من البشر ، وأنهم عند الله تعالى كالوزراء ورؤساء الحجاب والأعوان عند الملوك المستبدين ، يقربون منه ويبعدون عنه من شاءوا ويحملونه على العطاء والمنع والضر والنفع كما يشاءون .
وجملة القول أن الله تعالى قد أبطل هذه الشبهة في الآيات 7 و 8 و 9 من هذه السورة وردها أكمل رد ، فراجع تفصيل القول في تفسيرهن ( ص 258 ج 7 ط الهيئة تفسير ) ثم بين في الآية ( 111 ) أنه لو نزل إليهم الملائكة وآتاهم كل شيء من الآيات مقابلا لهم ، أو حشره وجمعه لهم قبيلا بعد قبيل ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ; لأنهم معاندون لا مريدو حق وطلاب دليل يعرفونه به . فيراجع تفسيرها في أول هذا الجزء .
تعجيزهم الرسول بطلب الآيات كان الجاهلون المعاندون من كفار
مكة يطالبون الرسول صلى الله عليه وسلم بالآيات على رسالته ، وكان بأمر الله تعالى يحتج ويستدل عليها بشهادة الله له وهي أنواع ، وبالقرآن الجامع لأقوى طرق الاستدلال العلمية ، والعقلية على كونه آية في نفسه من وجوه كثيرة ، وآية باعتبار كون من أنزل على قلبه وظهر على لسانه كان أميا لم يتعلم شيئا ما من أنواع العلوم الإلهية والشرعية والاجتماعية والتاريخية التي اشتمل عليها . وقد بينا وجوه دلالة القرآن على رسالته صلى الله عليه وسلم في مواضع من تفسير هذه السورة فراجع تفسير الآية 19 في ص282 ج 7 ط الهيئة تفسير . والآية 25 ص 289 ج 7 ط . الهيئة تفسير . والآية 37 ص 323 ج 7 ط الهيئة تفسير ، وفيه بيان كون
القرآن أدل على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم من الآية الكونية التي أوتيها موسى وعيسى وغيرهما - عليهم الصلاة والسلام - على رسالتهم ، والآية 50 ( ص 351 - 356 ج 7 ط الهيئة تفسير . وكذا الآية 5 من السورة ص 252 من هذا الجزء ) .
نعم إن آية
القرآن أقوى الحجج وأظهر الدلالات وهي مشتملة ومرشدة إلى كثير من الآيات والبينات ، ولكن الذين كانوا يطالبون الرسول صلى الله عليه وسلم بالآيات على صدقه لم يكونوا ينظرون في الآيات ولا يحفلون بأمر الاستدلال ، بل كانوا يعرضون عن كل آية لأنهم فريقان : فريق الرؤساء والكبراء الذين شغلهم الكبر والحسد للرسول والعداوة له عن النظر فيما جاء به من هدى وما أقام عليه من دليل ، وفريق المقلدين الذين ألفوا ما ورثوا عن آبائهم وأجدادهم فأعرضوا عن كل ما يخالفه ، ولا سيما إذا كان مزيفا له ومضللا لأهله ; ولهذا قال تعالى بعد افتتاح هذه السورة الكريمة بحمده ووصفه بما يثبت
[ ص: 248 ] استحقاقه للحمد ، ومقارنة ذلك بما اتخذ الذين كفروا له من ند وعدل : (
وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين ) ( 4 ) وأنى يفقه الشيء من يعرض عنه ولا ينظر فيه ؟ .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحزن لإعراضهم ويود لو يؤتيه الله تعالى آية مما اقترحوا عليه من الآيات السماوية كإنزال الملك أو إنزال كتاب من السماء - أو الآيات الأرضية كتفجير ينبوع في
مكة أو إعطائه جنة فيها يفجر الأنهار خلالها تفجيرا ، فهون الله تعالى عليه ذلك وعلمه ما لم يكن يعلم من طباع هؤلاء المعاندين وعدم استعدادهم للإيمان ، وكونهم يكذبون بكل آية يؤتونها كما كذب أمثالهم الرسل من قبله ، وبين له سنته في عذاب المكذبين بعد إيتائهم الآيات المقترحة بالاستئصال ، وفي خذلانهم ونصر الرسل عليهم ، وأمره أن يصبر على قومه كما صبروا على أقوامهم ويتحمل مثل ما تحملوا من أذاهم . ويخبرهم أن الآيات عند الله تعالى لا عنده . راجع تفسير الآيات 7 - 9 ص 258 وما بعدها ج 7 ط الهيئة تفسير لح و 25 و 26 ( ص 289 وما بعدها ج 7 ط الهيئة تفسير منه لح و 23 - 37 في ص 309 - 320 منه ) وآية 50 ( ص 351 منه ) و57 و58 ( في ص 377 منه ) و 65 - 67 ( ص 408 - 419 منه و 109 و 110 ص 553 ) إلى آخر الجزء السابع ط الهيئة و 111 في أول هذا الجزء و 124 - 126 ( ص32 وما بعدها منه ) .