(
اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ) هذا بيان للإنذار العام ، الذي أمر الرسول بتبليغه إلى جميع الأنام ، وهو على تقدير القول الذي يكثر حذفه في مثل هذا المقام ، لما يدل عليه من الأسلوب وسياق الكلام ، أي قل : يا أيها الناس اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ، الذي هو خالقكم ومربيكم ومدبر أموركم ، فإنه هو الذي له وحده الحق في شرع الدين لكم وفرض العبادات عليكم ، والتحليل لما ينفعكم ، والتحريم لما يضركم ؛ لأنه أعلم بمصلحتكم منكم (
ولا تتبعوا من دونه أولياء ) تتخذونهم من أنفسكم ، ولا من الشياطين الذين يوسوسون لكم ، بما يزين لكم ضلال تقاليدكم والابتداع في دينكم ، فتولونهم أموركم ، وتطيعونهم فيما يرومون منكم ، من وضع أحكام ، وحلال وحرام ، زاعمين أنه يجب عليكم تقليدهم لأنهم أعلم منكم ، أو للاقتداء بما كان عليه آباؤكم ، فإنما
على العالم بدين الله تبليغه وبيانه للمتعلم لا بيان آرائه وظنونه فيه - ولا أولياء تتخذونهم لأجل إنجائكم من الجزاء على ذنوبكم ، وجلب النفع لكم أو رفع الضر عنكم ، زاعمين أنهم بصلاحهم يقربونكم إليه زلفى ، أو يشفعون لكم عنده في الآخرة أو الدنيا ، فإن الله ربكم هو الولي ، أي الذي يتولى أمر العباد بالتشريع والتدبير ، والخلق والتقدير ، فله وحده الخلق والأمر وبيده النفع والضر (
قليلا ما تذكرون ) أي تذكرا قليلا تتذكرون ، أو زمنا قليلا تتذكرون ما يجب أن يعلم فلا يجهل ويحفظ فلا ينسى ، مما يجب للرب تعالى ، ويحظر أن يشرك معه غيره فيه ، أو قليلا ما تتعظون بما توعظون به فترجعون عن تقاليدكم وأهوائكم إلى ما أنزل إليكم من ربكم . قرأ
حمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي وحفص عن
عاصم " تذكرون " بحذف إحدى التاءين وتخفيف الذال وتشديد الكاف ، على أن أصلها ( تتذكرون ) وقرأها
ابن عامر " يتذكرون " بالياء على أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على طريق الالتفات ، وقرأها الباقون بالتاء وتشديد الذال بإدغام التاء الأخرى فيها .
قد حققنا معنى الولاية لغة وأنواع استعمالها في القرآن مرارا أقربها ما في سورة الأنعام كقوله تعالى : (
وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا ) ( 6 : 129 ) وبينا وجه الحصر في كون الله تعالى هو ولي المؤمنين في تفسير : (
قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض ) ( 6 : 14 ) وزدنا هذا بيانا في تفسير : (
وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون ) ( 6 : 51 )
[ ص: 273 ] وكذا تفسير : (
وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع ) ( 6 : 70 ) كما بيناه في تفسير آيات أخرى مما قبل سورة الأنعام ، ومن أوسعها وأعمها بيانا تفسير قوله تعالى : (
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت ) ( 2 : 257 ) الآية وفيه تفصيل لولاية الله المؤمنين ، وولاية المؤمنين بعضهم لبعض ، وولاية الطاغوت للكافرين .
ونكتفي هنا بأن نقول : إن الولاية التي هي عبارة عن تولي الأمر - منها ما هو خاص برب العباد وإلههم الحق ، وهي قسمان : ( أحدهما ) شرع الدين ، عقائده وعباداته وحلاله وحرامه . ( وثانيهما ) الخلق والتدبير الذي هو فوق استطاعة الناس في أمور الأسباب العامة التي مكن الله منها جميع الناس في الدنيا ، كالهداية بالفعل ، وتسخير القلوب ، والنصر على الأعداء وغير ذلك - وكل ما يتعلق بأمر الآخرة من المغفرة والرحمة والثواب والعقاب ، فكل ما ورد من حصر الولاية في الله تعالى فالمراد به تولي أمور العباد فيما لا يصل إليه كسبهم وشرع الدين لهم كما فصلناه في تفسير آية البقرة وغيرها .
والمتبادر هنا من النهي عن
اتباع الأولياء من دونه تعالى ، هو النهي عن طاعة كل أحد من الخلق في أمر الدين غير ما أنزل الله من وحيه ، كما فعل
أهل الكتاب في طاعة أحبارهم ورهبانهم فيما أحلوا لهم وزادوا على الوحي من العبادات وما حرموا عليهم من المباحات ، كما ورد في الحديث المرفوع في تفسير قوله تعالى : (
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) ( 9 : 31 ) وكل من أطاع أحدا طاعة دينية في حكم شرعي لم ينزله ربه إليه فقد اتخذه ربا ، والآية نص في عدم جواز
طاعة أحد من العلماء ولا الأمراء في اجتهاده في أمور العقائد والعبادات والحلال والحرام تدينا ، وما على العلماء إلا بيان ما أنزله الله وتبليغه ، وإرشاد الناس إلى فهمه وما عسى أن يخفى عليهم من تطبيق العمل على النص ، وحكمة الدين في الأحكام كبيان سمت القبلة في البلاد المختلفة ، فهم لا يتبعون في ذلك لذواتهم ، بل المتبع ما أنزله الله بنصه أو فحواه على حسب روايتهم له وتفسيرهم لمعناه ، وإنما يطاع أولو الأمر من الأمراء وأهل الحل والعقد في تنفيذ ما أنزله الله تعالى ، وفيما ناطه بهم من استنباط الأحكام في سياسة الأمة وأقضيتها التي تختلف المصالح فيها باختلاف الزمان والمكان . والآية نص في
بطلان القياس ونبذ الرأي في الأمور الدينية المحضة ، وقد فصلنا القول في ذلك وما يتعلق
[ ص: 274 ] به من الأصول والفروع في تفسير : (
يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) ( 4 : 59 ) الآية ، وتفسير قوله تعالى : (
يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) ( 5 : 101 ) الآية .
ولا شك في أن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه من بيان الدين داخل في عموم ما أنزل إلينا على لسانه ، وكذا اتباعه في أحكامه الاجتهادية ، فإنه تعالى أمرنا باتباعه وبطاعته ، وأخبرنا بأنه مبلغ عنه ، وقال له : (
وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) ( 16 : 44 ) والجمهور على أن
الأحكام الشرعية الواردة في السنة موحى بها ، وأن الوحي ليس محصورا في القرآن ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والإمام الشافعي يقول : إنها مستنبطة من القرآن . وقد قال صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919166إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر " رواه
مسلم من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=46رافع بن خديج في مسألة تأبير النخل ، وروي من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=17176موسى بن طلحة عن أبيه أنه صلى الله عليه وسلم قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=919872إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فإني إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن ، ولكن إن حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به فإني لن أكذب على الله عز وجل " وإذا كان عليه أفضل الصلاة والسلام قد أذن لنا ألا نأخذ بظنه في أمور الدنيا ، وقال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=918607أنتم أعلم بأمر دنياكم " كما في حديث
عائشة وثابت بن أنس عند
مسلم ، فما القول بظن غيره ؟ ومنه اجتهاد العلماء فيما ذكرنا آنفا .
قال
الرازي : هذه الآية تدل على أن
تخصيص عموم القرآن بالقياس لا يجوز ؛ لأن
عموم القرآن منزل من عند الله تعالى ، والله تعالى أوجب متابعته فوجب العمل بعموم القرآن ، ولما وجب العمل به امتنع العمل بالقياس وإلا لزم التناقض ، فإن قالوا : لما ورد الأمر بالقياس في القرآن وهو قوله : (
فاعتبروا ) كان العمل بالقياس عملا بما أنزل الله - قلنا : هب أنه كذلك ، إلا أنا نقول : الآية الدالة على وجوب
العمل بالقياس إنما تدل على الحكم المثبت بالقياس لا ابتداء بل بواسطة ذلك القياس ، وأما عموم القرآن فإنه يدل على ثبوت ذلك الحكم ابتداء لا بواسطة ، ولما وقع التعارض كان الذي دل عليه ما أنزله الله ابتداء أولى بالرعاية من الحكم الذي دل عليه ما أنزله الله بواسطة شيء آخر ، فكان الترجيح من جانبنا والله أعلم اهـ .
وقد نقلنا في بحث القياس أن
الرازي قد رد في محصوله كون قوله تعالى : (
فاعتبروا يا أولي الأبصار ) ( 59 : 2 ) دليلا على القياس الأصولي وهو مصيب في ذلك . ثم أورد استدلالا آخر بالآية لنفاة القياس وأورد عليه مناقشة القياسيين فيه ، ونحن في غنى عن ذلك بتحقيق الحق في المسألة في تفسير آية المائدة التي أشرنا إليها آنفا .
[ ص: 275 ] ثم ذكر أن
الحشوية الذين ينكرون النظر العقلي والبراهين العقلية تمسكوا بهذه الآية : قال : وهو بعيد لأن
العلم بكون القرآن حجة موقوف على صحة التمسك بالدلائل العقلية ، فلو جعلنا القرآن طاعنا في صحة الدلائل العقلية لزم التناقض وهو باطل اهـ . وكان ينبغي أن يرد عليهم بأن القرآن قد هدى إلى الدلائل العقلية باستدلاله بالمعقول ، ومخاطبته لأولي الألباب وأصحاب العقول ، على أننا لا نعرف طائفة من الناس تنكر النظر العقلي والبراهين العقلية مطلقا ، وإنما أنكر بعض العقلاء وأهل البصيرة على أمثاله من المتكلمين جعل العقائد والصفات الإلهية وأخبار عالم الغيب محلا لنظريات فلسفية ، وموقوفا إثباتها على اصطلاحات جدلية ما أنزل الله بها من سلطان ، ولم يستفد أصحابها منها غير تفريق الدين ، واختلاف المسلمين ، والبعد عن حق اليقين ، ويرى هؤلاء أن
كون القرآن عند الله تعالى قد ثبت ثبوتا عقليا من وجوه كثيرة ، فوجب اتباعه بتلقي العقائد والأحكام منه مع اجتناب التأويل للصفات الإلهية والأمور الغيبية بالنظريات الكلامية كما كان عليه السلف الصالح ، وقد بينا هذا في مواضع أخرى .