(
وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ) أي : وما جعلنا القبلة فيما مضى هي الجهة التي كنت عليها إلى اليوم ثم أمرناك بالتحول عنها إلى
الكعبة إلا ليتبين لك وللمؤمنين الثابت على إيمانه ممن لا ثبات له ، فتعلموا المتبع للرسول من المنقلب على عقبيه ، برجوعه إلى الكفر الذي كان عليه ، أو إلا ليكون علمنا الغيبي بحقيقة أمرهما ومآلهما علم شهادة بوقوع متعلقه ، وهو الذي يترتب عليه الجزاء ; أي : إن الله تعالى يختبر المؤمنين بما يظهر به صدق الصادقين ، وريب المرتابين ، وعاقبة المنافقين ; ليرتب عليه الجزاء ، وإنما يثبت من فقه في الشيء فعرف سره وحكمته ، وأما المقلد الآخذ بالظواهر من غير فقه ولا عرفان ، والمنافق غير المطمئن بالإيمان فلا يثبتان في مهاب عواصف الشكوك والشبهات .
وقال مفسرنا (
الجلال ) : وما صيرنا القبلة لك الآن الجهة التي كنت عليها أولا وهي
الكعبة إلخ ، وهو مبني على قول الأقلين : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي أولا إلى
الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى
بيت المقدس ، فيكون النسخ قد حصل مرتين ، والأكثرون على أن المراد بالقبلة التي كان عليها
بيت المقدس .
قال بعض المحققين : إن هذه الجملة من قبيل (
وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ) ( 17 : 60 ) فالرؤيا لم تكن بنفسها فتنة وإنما افتتن الناس إذ أخبروا بها ولم يفقهوا المراد منها ، كذلك القبلة ، ليس في جعل جهة كذا قبلة فتنة واختبار للناس ، وإنما الفتنة فيما ترتب على ذلك من حيث كونه صرفا عن قبلة إلى غيرها . فالسفهاء والجهال الذين لا يفقهون ينكرون هذا التحويل ويرونه أمرا إدا ، والذين هداهم الله إلى فقه ذلك يرونه أمرا حكيما جدا ; ولذلك قال تعالى : (
وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله ) فمنحهم الاعتدال في الفكر ، والإدراك في الميل والرغبة . قاله الأستاذ الإمام .
ثم قال : ما مثاله - موضحا قوله تعالى : ( لنعلم ) - معهود في القرآن كثيرا ، ومثله : (
ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ) ( 72 : 28 ) وقوله : (
ليعلم الله من يخافه ) ( 5 : 94 ) والعقل والنقل متفقان على أن
علمه تعالى قديم لا يتجدد ، وللمفسرين في هذه الألفاظ أقوال ذكر الأستاذ الإمام أظهرها ، فقال ما مثاله : جرت عادة العرب في لغتها أن تنسب إلى الرئيس والكبير ما يحدث بأمره
[ ص: 8 ] وتدبيره ، يقولون : فتح الأمير البلد وقاتل الجيش ، وكثيرا ما يقولون هذا والأمير ليس واحدا من العاملين ، فهو أسلوب معهود إذا أريد إسناد الفعل إلى الجمهور أسندوه إلى المقدم فيهم ، ولما كان الله تعالى ولي الذين آمنوا وخاطبهم خطاب السيد ; صح بحسب هذا الأسلوب العربي أن يذكر الفعل بصيغة الجمع التي تشمل المتكلم وغيره ، وإن كان غيره هو المقصود بالفعل ، فمعنى ( إلا لنعلم ) إلا ليعلم عبادي المؤمنون بإعلامي إياهم . وقد علم المؤمنون في هذه الفتنة من هو الثابت على اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن هو المنافق الذي قلبته ريح الشبهة على عقبيه ، وكان المنافقون مع المؤمنين بحيث لا يماز أحدهم من الآخر ; لقيامهم جميعا بأداء الأعمال الظاهرة المطلوبة . وهكذا كان سبحانه وتعالى يمحص ما في القلوب بما يبتلي به الناس من الفتن (
أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ) ( 29 : 2 ، 3 ) وعلى هذا الأسلوب جاء ما روي في الحديث القدسي : ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=918645يا عبدي مرضت فلم تعدني ، وجعت فلم تطعمني ، وعطشت فلم تسقني ) ) خرجوه على أن المراد مرض عبادي الفقراء الذين هم عيال الله فلم تعدهم إلخ .
نعم إن الرواية غير صحيحة ولكن لم يفهم أحد منها أنها على ظاهرها ; لقطع العقل بأن هذا محال ، ولقوله تعالى : (
ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون ) ( 51 : 57 ) وقالت العرب : إني جائع في بطن غيري ، وعريان في ظهر غيري ، ويدخل في هذا الأسلوب أيضا مثل قوله تعالى : (
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ) أي : يعطي عباده المحتاجين ، والله يكافئه عنهم إذ كانوا عاجزين .
وثم وجه آخر في تفسير ( لنعلم ) وهو أن المراد بالعلم في مثل هذا علم الظهور والوقوع ، وذلك أن الله تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها أنها ستقع لا أنها واقعة ، ويعلمها بعد وقوعها أنها وقعت ، والجزاء يترتب على ما وقع بالفعل ، فقوله هنا : ( لنعلم ) يراد الثاني ; أي : لنعلم علم وقوع ووجود يترتب عليه الثواب والعقاب ، وليس معناه أنه تجدد له علم لم يكن ، وإنما التجدد في المعلوم لا في نفس العلم ; أي : إن المعلوم لم يكن موجودا ثم وجد وظهر ، كأنه قال : وما جعلنا القبلة جهة
بيت المقدس إلا لنحولها ونمتحن المؤمنين بالتحويل ليظهر ما ثبت في العلم القديم من اتباع بعض الناس للرسول واستقامتهم على هدايته ، وانقلاب بعضهم على عقبيه وإظهاره ما أكنه في نفسه من الريب ، وبذلك يمتاز المهتدون من الضالين ، وتقوم الحجة للمؤمنين على الكافرين ، ومعنى الانقلاب على العقبين : هو الانصراف عن الشيء بالرجوع إلى الوراء وهو طريق العقبين ، فالمنقلبون قد خرجوا من عداد المؤمنين وعادوا إلى
[ ص: 9 ] ما كانوا عليه من الكفر . ويقال : رجع على عقبيه ونكص على عقبيه ، وأبلغها : انقلب على عقبيه لما فيها من الإشعار بأنه رجع عن خير إلى شر ، أو من سوء إلى أسوأ .
قال الأستاذ الإمام : ومن قبيل استعمال العلم في متعلقه وما يصدق عليه قوله تعالى : (
قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ) ( 18 : 109 ) الآية ، وقوله : (
ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) ( 31 : 27 ) فالمراد من الكلمات هنا : الموجودات كلها ، عبر عنها بذلك ; لأن كل موجود منها وجد بكلمة الله ( كن ) ا هـ .
أقول : والمختار عندي التعبير عن علمه تعالى بالشيء قبل وجوده بعلم الغيب ، وبعد وجوده بعلم الشهادة كما قلت آنفا ، وأن كلمات الله في الآيتين الأخيرتين كلمات التكوين أنفسها لا متعلقاتها التي هي الموجودات ، فعلم الله قسمان : غيب وشهادة ، وكلماته قسمان : تشريع وتكوين .
ثم قال جل شأنه : (
وإن كانت لكبيرة ) أي : وإن القبلة أو قصتها في نسخها والتحول عنها لكبيرة الشأن شديدة الوقع فيما كان من أمر الناس ، أو ما كانت إلا كبيرة يشق التحول عنها (
إلا على الذين هدى الله ) أي : هداهم إلى المعرفة به والعلم بحكم شرعه ، فعقلوا أن التعبد بها إنما يكون بطاعة الله بها لا بسر في ذاتها أو مكانها ، وأن حكمتها اجتماع الأمة عليها الذي هو من أسباب اتحادهم وجمع كلمتهم .