[ ص: 351 ] (
قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون )
بعد أن أنكر التنزيل في الآية السابقة على المشركين وغيرهم من أهل الملل تحريم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق - قفى عليه ببيان أصول المحرمات العامة التي حرمها لضرر ثابت لازم لها لا لعلة عارضة ، وكلها من أعمالهم الكسبية لا من مواهبه ونعمه الخلقيه ليعلم أنه له الحمد والشكر لم يحرم على الناس إلا ما هو ضار بهم دون ما هو نافع لهم فقال :
(
قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) هذا كلام مستأنف لبيان ما حرمه الله تعالى بعد إنكار أن يكون حرم الزينة والطيبات ؛ لأن الحال تقتضي أن يسأل عنه والمعنى : قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين وغيرهم من أهل الملل الذين ظلموا أنفسهم ، وكذبوا على الله بزعمهم أنه حرم على عباده ما أخرج لهم من نعم الزينة والطيبات من الرزق وكذا لمن اتبعك من المؤمنين : إنما حرم ربي في كتبه ، على ألسنة رسله هذه الأنواع الخمسة أو الستة من أعمالهم الضارة التي يجنون بها على أنفسهم ، فجعل تحريمها هو الدائم الذي لا يباح بحال من الأحوال كما يدل عليه الحصر بـ ( إنما ) وهي :
1 ، 2 : الفواحش الظاهرة والباطنة - فالفواحش جمع فاحشة ، وهي الفعلة أو الخصلة التي فحش قبحها في الفطر السليمة والعقول الراجحة التي تميز بين الحسن والقبيح والضار والنافع ، وكانوا يطلقونها على الزنا واللواط والبخل الشديد وعلى القذف بالفحشاء والبذاء المتناهي في القبح ، وتقدم تفصيل القول في الفواحش ما ظهر منها وما بطن في تفسير ( 6 : 151 ) وهي من آيات الوصايا العشر في أواخر سورة الأنعام ، وفيه إحالة في تفسير ما ظهر منها وما بطن على تفسير (
وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) ( 6 : 120 ) من تلك السورة .
3 و 4 : الإثم والبغي - تقدم أن
الإثم في اللغة هو القبيح الضار فهو يشمل جميع المعاصي : الكبائر منها كالفواحش والخمر . والصغائر كالنظر واللمس بشهوة لغير الحليلة
[ ص: 352 ] وهو اللمم ، ومنه قوله تعالى : (
الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم ) ( 53 : 32 ) فعطف الفواحش على كبائر الإثم لا على الإثم ، فعطف الفواحش على كبائر الإثم لا على الإثم ، وهو من عطف الخاص على العام ، وكذلك عطف البغي على الإثم هنا من عطف الخاص على العام . ومعناه في أصل اللغة : طلب لما ليس بحق أو بسهل أو ما تجاوز الحد ، وقالوا : بغى الجرح - إذا ترامى إلى الفساد ، أو تجاوز الحد في فساده . ومنه البغي في الأرض الوارد في عدة آيات كقوله : (
فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ) ( 10 : 23 ) وقد صرح في بعضها بالفساد : (
ولا تبغ الفساد في الأرض ) ( 28 : 77 ) وإذا عدي البغي بـ " على " كان بمعنى التجاوز والتعدي على الناس في أنفسهم أو أموالهم أو أعراضهم ومنه : (
إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم ) ( 28 : 76 ) (
خصمان بغى بعضنا على بعض ) ( 38 : 22 ) (
فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي ) ( 49 : 9 ) بل ذهب الراغب إلى أن
حقيقة البغي طلب تجاوز الاقتصاد في القدر أو الوصف سواء تجاوزه بالفعل أو لم يتجاوزه . وذكر أنه قد يكون محمودا ، وهو تجاوز العدل إلى الإحسان والفرض إلى التطوع . واستعمال القرآن له في المعنيين اللذين ذكرناهما آنفا وفي غيرهما يؤيد تعريفنا وهو أعم من هذا التعريف . كقوله في البحرين : (
بينهما برزخ لا يبغيان ) ( 55 : 20 ) وقوله في أهل الجنة : (
لا يبغون عنها حولا ) ( 18 : 108 ) وقوله : (
أفغير دين الله يبغون ) ( 3 : 83 ) (
أفحكم الجاهلية يبغون ) ( 5 : 50 ) (
قل أغير الله أبغي ربا ) ( 6 : 164 ) (
يبغونكم الفتنة ) ( 9 : 47 ) (
ويبغونها عوجا ) ( 7 : 45 ) . ومنه البغاء : وهو طلب النساء الفاحشة . وقد يتعدى إلى مفعولين ومنه : (
أغير الله أبغيكم إلها ) ( 7 : 140 ) (
قل أغير الله أبغي ربا ) وقال في الأساس : وابغني ضالتي - اطلبها لي ، وأبغي ضالتي - أعني على طلبها . قال
رؤبة : "
فاذكر بخير وأبغني ما يبتغى
" أي اصنع بي ما يجب أن يصنع ، وخرجوا بغيانا لضوالهم اهـ . وكله يدخل في تعريفنا . فإن طلب الضالة التي خرجت من حيازة المالك طلب لما يعسر ، بل ناشدها يطلب ما ليس له بالفعل ،
ورؤبة يطلب إحسانا وكرامة ليست حقا له .
فعلم من هذا أن البغي المحرم هو الإثم الذي فيه تجاوز لحدود الحق ، أو اعتداء على حقوق أفراد الناس أو جماعاتهم وشعوبهم ؛ ولذلك اقترن الإثم بالعدوان كقوله : (
تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان ) ( 2 : 85 ) (
ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) ( 5 : 2 ) (
وترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم والعدوان ) ( 5 : 62 ) ومنه : (
فمن اضطر غير باغ ولا عاد ) ( 2 : 173 ) أي فمن اضطر إلى شيء من محرمات الطعام غير طالب لها لذاتها فإنه غير متجاوز للحق ولا عاد حد الضرورة فيما يتناوله منها (
فلا إثم عليه ) .
وقد قيد البغي بكونه بغير الحق لاستعماله بالمعنى اللغوي الذي يشمل تجاوز الحدود
[ ص: 353 ] المعروفة أو المألوفة فيما لا ظلم فيه ولا فساد ، ولا هضم لحقوق الجماعات ولا الأفراد ، كالأمور التي ليس لهم فيها حقوق ، أو التي تطيب أنفسهم فيها عن بعض حقوقهم فيبذلونها عن رضى وارتياح لمنفعة أو مصلحة لهم يرجونها ببذلها . وقيل : إن القيد للتأكيد .
وقال
ابن القيم : إن الإثم ما كان محرم الجنس ، والعدوان ما كان محرم القدر والزيادة ، فهو تعدي ما أبيح إلى القدر المحرم ، كالاعتداء في أخذ الحق ممن هو عليه بأخذ زيادة عما له ، وبإتلاف أضعاف ما أتلف عليه ، أو قول أضعاف ما قيل فيه . فهذا كله تعد للعدل . قال : وكذلك ما أبيح له قدر معين منه فتعداه إلى أكثر منه ، كمن أبيح له إساغة الغصة بجرعة من خمر فتناول الكأس كلها ، أو أبيح له نظرة الخطبة والسوم والمعاملة والمداواة ، فأطلق عنان طرفه في ميادين محاسن المنظور ، وأسام طرف ناظره في تلك الرياض والزهور ، فتعدى المباح إلى القدر المحظور ، إلخ ما أطال به في وصف نظر الشهوة ومفاسده .
ثم قال : إن الغالب في استعمال البغي أن يكون في حقوق العباد والاستطالة عليهم ، وأنه إذا قرن بالعدوان كان البغي ظلمهم بمحرم الجنس كالسرقة والكذب والبهت والابتداء بالأذى والعدوان تعدي الحق في استيفائه إلى أكبر منه ، فيكون البغي والعدوان في حقهم كالإثم والعدوان في حدود الله ( قال ) فههنا أربعة أمور : حق لله وله حد ، وحق لعباده وله حد ، فالبغي والعدوان والظلم تجاوز الحدين إلى ما وراءهما ، أو التقصير عنهما فلا يصل إليهما اهـ .
( 5 ) :
الشرك بالله - وهو معروف - وقد بينا أنواعه في مواضع من هذا التفسير ، ومن المعلوم بالضرورة أنه أبطل الباطل ، فلا يمكن أن يقوم عليه حجة من العقل ، ولا سلطان من الوحي ، والسلطان : الحجة البينة ؛ لأن لها سلطة على العقل والقلب . فقوله تعالى : (
وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ) بيان للواقع من شركهم ، وتكذيب لهم في مضمون قولهم : (
لو شاء الله ما أشركنا ) ( 6 : 148 ) الآية ونص على أن أصول الإيمان ، يجب أن تكون بوحي من الله مؤيد بالبرهان ، فهو كقوله تعالى : (
ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به ) ( 23 : 117 ) الآية ، ولا يكون هذا الداعي إلا كذلك . ولكنه تعالى عظم شأن الدليل والبرهان في دينه وناط به تصديق دعوى المدعي وردها ، بصرف النظر عن موضوعها ، حتى كأن من جاء بالبرهان على الشرك يصدق به ، وهو من فرض المحال ، للمبالغة في فضل الاستدلال ، وقد قال في سياق إقامة البراهين على توحيده : (
أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) ( 27 : 64 ) على أنه صرح بأنه ليس لديهم برهان فيما أقام على كذبهم فيه البرهان ، وكيف يكون لديهم ما هو في نفسه محال ، كقوله : (
قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو [ ص: 354 ] الغني له ما في السماوات والأرض إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون ) ( 10 : 68 ) " إن " هنا نافية ، أي ما عندكم أدنى دليل بهذا القول الفظيع الذي تقولونه مع أن ما تبطل البراهين والآيات البينة مثله يحتاج مدعيه إلى أقوى البراهين والحجج وأعظمها سلطانا على العقول ، ولما كان منهم من قد يعترف بأنه قول لا تقوم عليه حجة من العقل ، بل لا يتصور العقل وجوده ، ولكنه يدعي أنه ورد به النقل عن الأنبياء ، وأن
المسيح ادعاه لنفسه قال : (
أتقولون على الله ما لا تعلمون ) وهذه الآية تناسب الآية التي نفسرها .