ثم وصف هؤلاء الظالمين بقوله : (
الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ) تقدم أن صد يصد يجيء لازما بمعنى يعرض ويمتنع عن الشيء ، ومتعديا بمعنى يصد غيره ويصرفه عنه ، وأن الإيجاز في مثل هذا التعبير يقتضي الجمع بينهما - أي الذين يعرضون عن سلوك سبيل الله الموصلة إلى مرضاته وكرامته وثوابه ويضلون الناس عنها ، ويمنعونهم من سلوكها ، ويبغونها معوجة أو ذات عوج ، أي غير مستوية ولا مستقيمة حتى لا يسلكها أحد . قال في اللسان : والعوج بالتحريك مصدر قولك عوج الشيء بالكسر فهو أعوج ، والاسم العوج بكسر العين ، وعاج يعوج إذا عطف ، والعوج في الأرض ألا تستوي ، وفي التنزيل : (
لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ) ( 20 : 107 ) قال
ابن الأثير : قد تكرر ذكر العوج في الحديث اسما وفعلا ومصدرا وفاعلا ومفعولا ، وهو بفتح العين مختص بكل شكل مرئي كالأجسام ، وبالكسر بما ليس بمرئي كالرأي والقول ، وقيل : الكسر يقال فيهما معا ، والأول أكثر . ( ثم قال ) وعوج الطريق وعوجه زيغه ، وعوج الدين والخلق فساده وميله على المثل اهـ . وقال
الراغب : إن العوج ( بالتحريك ) يقال فيما يدرك بالبصر ، والعوج ( بكسر ففتح ) يقال فيما يدرك بالفكر والبصيرة كالدين والمعاش .
وأما بغي الظالمين - أي طلبهم - أن تكون سبيل الله عوجا ، أي غير مستوية ولا مستقيمة فيكون على صور شتى ، فأصحاب الظلم العظيم - وهو الشرك - يشوبون التوحيد بشوائب كثيرة من الوثنية ، أعمها الشرك في العبادة ومخها الدعاء ، فلا يتوجهون فيه إلى الله وحده بل يشركون معه في التوجه والدعاء غيره على أنه شفيع عنده وواسطة لديه أو وسيلة إليه (
وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ) ( 98 : 5 ) (
حنفاء لله غير مشركين به ) ( 22 : 31 ) (
دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا ) ( 6 : 161 ) (
إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين ) ( 6 : 79 ) بل منهم من يتوجهون إلى غيره توا ويدعونه من دونه ولا سيما عند الضيق والشدة ، فلا يخطر ببالهم ربهم ولا يذكرونه ، ولكنهم إذا أنكر عليهم منكر يتأولون فيقول العامي : المحسوب كالمنسوب ، الواسطة لا تنكر . ويقول المعمم دعي العلم : هذا توسل واستشفاع ، لا عبادة ولا دعاء ، وكرامات الأولياء حتى خلافا
للمعتزلة والأولياء أحياء في قبورهم كالشهداء . وقد فندنا دعواهم مرارا .
والظالمون بالابتداع يبغونها عوجا بما يزيدون في الدين من البدع والمحدثات ، التي لم ترد
[ ص: 381 ] في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا سنة الخلفاء الراشدين وجمهور الصحابة ، ومستندهم في هذه البدع النظريات الفكرية ، والتأويلات الجدلية ، ومحاولة التوفيق بين الدين والفلسفة العقلية ، هذا إذا كان
الابتداع في المسائل الاعتقادية ، وأما
الابتداع بالزيادة في العبادات الواردة والشعائر المشروعة ، فمنه ما كان كاحتفالات الموالد وترتيلات الجنائز وأذكار المآذن - كالزيادة في الأذان - وما كان في تحريم ما لم يحرم الله من الزينة والطيبات من الرزق أو في إحلال ما حرمه ، كبناء المساجد على القبور واتخاذها أعيادا وتشريفها وإيقاد المصابيح والسرج من الشموع وغيرها عليها ، فإن خواصهم يحتجون بآراء سقيمة ، وأقيسة مؤلفة من مقدمات عقيمة ، واستحسانات ينكرون أصولها ويأخذون بفروعها . وعوامهم يقولون : قال فلان من المؤلفين ، وفعل فلان من الصوفية الصالحين ، ونحن لا نفهم كلام الله ولا كلام الرسول ، وإنما نفهم كلام هؤلاء الفحول ، بل وجد ولا يزال يوجد من المعممين المدرسين من يصرحون في دروسهم بأنه لا يجوز لمسلم في زمانهم أن يعمل بكتاب الله ولا بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا بما نقله المحدثون عن سلف الأمة الصالح ، بل على كل مسلم أن يأخذ بما يلقنه إياه أي عالم ينتمي إلى مذهب من المذاهب المعروفة ، وإن لم يرو ما يلقنه عن إمام المذهب ولم يستدل عليه بدليل مبني على أصول المذهب التي كان بها مذهبا كعمل
أهل المدينة عند
مالك بشرطه ، وكون الإجماع الذي يحتج به هو
إجماع الصحابة دون من بعدهم ، وهو مذهب
داود والمشهور عن
أحمد وروي عن
أبي حنيفة وكالخلاف في
الاحتجاج بالحديث المرسل .
والظالمون بالزندقة والنفاق يبغونها عوجا بالتشكيك فيها بضروب من التأويل يقصد بها بطلان الثقة بها والصد عنها ، ومذاهب الباطنية التي أدخلت في الإسلام من منافذ التشيع والتصوف معروفة ، وقد كان لواضعي تلك التأويلات من الفرس غرض سياسي من إفساد الإسلام على أهله وإحداث الشقاق بينهم فيه ، وهو إضعاف العرب وإزالة ملكهم للتمكن من إعادة ملك فارس وسلطان الملة المجوسية ، ثم رسخ بالتقليد في طوائف من أجناس أخرى حتى العرب جهلوا أصله ، ومن الأفراد من يحاول إفساد دين قومه عليهم ليكونوا مثله ، فلا يكون محتقرا بينهم ، ومن زنادقة عصرنا من يحاولون هذا لظنهم أن قومهم لا يمكن أن يكونوا كالإفرنج في حضارتهم المادية الشهوانية إلا إذا تركوا دينهم ، وهم يرون الإفرنج يتعصبون لدينهم وينفقون الملايين في سبيل نشره .
والظالمون في الأحكام يبغونها عوجا بترك تحري ما أمر الله تعالى به من التزام الحق وإقامة ميزان العدل ، والمساواة فيهما بين الناس بالقسط ، بألا يحابي أحد لعقيدته أو مذهبه ، ولا لغناه أو قوته ، ولا يهضم حق أحد لضعفه أو فقره ، ولا لفسقه أو كفره
[ ص: 382 ] (
ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ) ( 5 : 8 ) بل منهم من بغى هذه الشريعة العادلة المعتدلة عوجا في أساس نظامها وأصول أحكامها ، فجعل حكومتها من قبيل الحكومات الشخصية ، ذات السلطة الاستبدادية .
والظالمون بالغوا فيها جعلوا يسرها عسرا ، وسعتها ضيقا وحرجا ، وزادوا على ما شرعه الله من أحكام العبادات ، والمحظورات والمباحات ، أضعاف ما أنزله الله في كتابه وما صح من سنة رسوله ، مما ضاقت به مطولات الأسفار ، التي تنقضي دون تحصيلها الأعمار ، ومنهم من جعل غاية الاهتداء بها الفقر والمهانة ، والذلة والاستكانة ، خلافا لما نطق به الكتاب من عزة المؤمنين ، وكونهم أولى بزينة الدنيا وطيباتها من الكافرين .
فهذه أمثلة لمن يبغونها عوجا من المنتمين إليها والمدعين لهدايتها ، وأما أعداؤها الصرحاء فهم يطعنون في كتاب الله وفي خاتم رسله جهرا بما يخلقون من الإفك ، وما يحرفون من الكلم ، وما يخترعون من الشبهات ، وما ينمقون من المشككات وأمرهم معروف ، وأجرؤهم على البهتان والزور وتعمد قلب الحقائق فريقان - دعاة النصرانية الطامعون في تنصير المسلمين الذين اتخذوا هذه الدعوة حرفة عليها مدار رزقهم ، ورجال السياسة الاستعماريون الطامعون في استعباد المسلمين واستعمار بلادهم ، وكل من الفريقين ظهير للآخر ، فالحكومة السودانية الإنكليزية حرمت مجلة المنار على مسلمي السودان بسعي دعاة النصرانية وسعايتهم لأن دعوتهم لا تروج في قوم يقرءون المنار .
وأما قوله تعالى : (
وهم بالآخرة كافرون ) فهو خاص بمنكري البعث من أولئك الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ، وهم شر تلك الفرق كلها - أي وهم على ضلالتهم وإضلالهم كافرون بالآخرة كفرا راسخا قد صار صفة من صفاتهم فلا يخافون عقابا على إجرامهم فيتوبوا منه ، وتقديم الجار والمجرور ( بالآخرة ) على متعلقه للاهتمام به فإن أصل كفرهم قد علم مما قبله وهذا النوع منه له تأثير خاص في إصرارهم على ما أسند إليهم ، وقد غفل عن هذا من قال إن التقديم لأجل رعاية الفاصلة .
ومن المعلوم أن المؤذن بلعن هؤلاء في الآخرة يصفهم بالظلم ، ويسند إليهم الصد عن سبيل الله وبغيها عوجا بصيغة المضارع ، ويصفهم بالكفر بالآخرة في الآخرة بعد أن زال الكفر بها ، بعين اليقين فيها ، وفات زمن الصد عنها ، وبغيها عوجا والنكتة في هذا تصوير حالهم التي كانوا عليها في الدنيا ، وترتب عليها ما صاروا إليه في الآخرة ، ليتذكروها هم وكل من سمع التأذين بها ، ويعلموا عدل الله بعقابهم عليها . وليعتبر بها في الدنيا من يتصور حالهم هذه فكانت البلاغة أن يعدل هنا عن صيغة الماضي إلى صيغة الحال حتى يخيل
[ ص: 383 ] أنه هو الواقع عند إطلاق الكلام . كما كانت البلاغة في العدول عن صيغة الاستقبال في تحاور أهل الجنة وأهل النار إلى صيغة الماضي لإثبات القطع به وتحقق وقوعه . ويجوز أن يكون وصفهم بما ذكر مستأنف من كلام الله تعالى لا من كلام المؤذن .