ومن
حكم الله تعالى ولطف تدبيره في الهواء وفي اختلاف بقاع الأرض في الحر والبرد ما يحدثه هذا الاختلاف من الرياح وما لها من المنافع للأحياء ولا سيما الناس .
فمن
سننه تعالى في نظام الكون أن الحرارة تمدد الأجسام فيخف وزنها ، وأن المائعات والأبخرة والغازات منها يعلو ما خف منها على ما ثقل ، فإذا وضع ماء وزيت في إناء يكون الزيت في أعلاه وإن وضع أولا ، والماء في أسفله وإن وضع آخرا ؛ لأن الزيت أخف من الماء ، والماء السخن يكون في أعلى الإناء والبارد في أسفله ، ومتى سخن كله يكون أعلاه أشد حرارة من أسفله . فعلى هذه السنة إذ سخن الهواء المجاور للأرض بحرارتها لا يلبث
[ ص: 433 ] أن يرتفع في الجو ويحل محله هواء أبرد منه لحفظ التوازن (
ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ) ( 67 : 3 ) وهذا هو الأصل في حدوث الرياح .
ومن المعلوم أن حرارة الأرض تكون على أشدها في خط الاستواء ، وهو وسط عرض الأرض وما يقرب منه ، حيث تكون أشعة الشمس عمودية فيكون تأثير حرارتها في الأرض على أشده ، ثم يضعف تأثيرها في جهتي الشمال والجنوب حيث تقع الأشعة مائلة بقدر هذا الميل فتكون الحرارة معتدلة ، ثم تكون باردة حتى تصل في منطقة القطبين إلى درجة الجليد الدائم لقلة ما يصيبها من شعاع الشمس مائلا في الأفق لا تأثير له في الأرض ، فهنالك تكون سنتها يوما واحدا نصفه ليل ونصفه نهار ، وليل كل من ناحية القطبين نهار الآخر . وتحديد أمثال هذه المسائل كلها موضعه علم ( الجغرافية الطبيعية أو الرياضية ) ولاختلاف درجات الحرارة في كل قطر أسباب غير القرب من خط الاستواء والبعد عنه ، أهمها الجبال والأنجاد والأغوار والقرب أو البعد من البحار .
لولا حركة الهواء وحدوث الرياح بما ذكرنا لازدادت حرارة البقاع الحارة سنة بعد سنة حتى تكون محرقة لكل شيء فيها ، ولازداد قر البقاع الباردة حتى ييبس كل حي فيها فيكون جليدا كما يحصل لأسماك الأنهار والبحار الشمالية ، التي تجمد في فصل الشتاء حتى إذا ما عادت مياهها إلى سيلانها في فصل الصيف لانت تلك الأسماك وعادت إليها الحركة وسائر خواص الحياة .
بالرياح ينتفع جو كل من البلاد الحارة والبلاد الباردة ، من جو الآخر بما في كل منهما من الخواص والمزايا التي أشرنا إلى المهم منها ، فبارتفاع هواء المنطقة الاستوائية الحار لخفته وانخفاض هواء القطبين لثقله يحدث في كل من نصفي كرة الأرض تياران هوائيان بين وسط الأرض وطرفيها - كما يحدث في جو كل قطر على حدة ، فإن الحر يشتد عندنا
بمصر في الربيع والصيف من الضحوة الكبرى إلى وقت الأصيل أو إلى الليل فيرتفع ويأتي بدله هواء معتدل لطيف من جونا نفسه كما تقدم - وإذا استمر الحر الشديد عدة أيام يخلفه هواء بارد معتدل أياما أخرى . وهو في الغالب يكون من الأقطار المجاورة لنا - فكلما كانت حركة الريح شديدة كان مداها أبعد ، وأقل حركة في الهواء تريك كيف يعدل الجو ما يمكنك أن تختبره في حجرتك إذا فتحت نافذة فيها وأخذت شمعة أو ذبالة - فتيلة - موقدة فوضعتها في أعلى النافذة مرة وفي أسفلها أخرى ، فإنك ترى النور في أسفلها مائلا نحوك وفي أعلاها مائلا عنك إلى خارج الحجرة ؛ لأن الهواء الحار الذي في الحجرة هو الخفيف فيخرج من أعلاها ويدخل بدله هواء الجو الذي هو أبرد من هواء الحجرة في أكثر الأوقات وإنما يكون الهواء الخارجي أشد حرارة من هواء البيوت في أوقات هبوب الريح السموم
[ ص: 434 ] وبهذه القاعدة يعرف سبب اختلاف النسيم وهبوب الريح في سواحل البلاد الحارة تارة من البر كوقت الليل وتارة من البحر وأكثره في النهار ، وذلك أن الماء أقل تأثرا بحرارة الشمس من الأرض ولا سيما الرملية والحجرية .
هذا وإن للرياح في اتجاهها بين خط الاستواء والقطب جنوبا وشمالا وفيما بينهما شرقا وغربا أسبابا معروفة ، كما أن لقوة الرياح في البحار والأقطار أوقاتا تختلف باختلاف مواقعها من الأرض ، كالرياح الموسمية التي تشتد في فصل الصيف في
المحيط الهندي حيث تكون البحار الشمالية وكذا
البحر المتوسط رهوا أو معتدلة الاضطراب تبعا لسكون الريح واعتدالها .
وجملة القول أن أسباب حركة الهواء وهبوب الرياح وكون أصل المنتظم منها أربعا ومنه ما يسمونه الرياح التجارية المواتية والمضادة أو العكسية والرياح الموسمية - كل تلك الأسباب - معروفة للبشر في الجملة تبعا لعلمهم بسنن الله في الحرارة والبرودة وبهيئة الأرض وحركتها وفصولها ، ولكن هذا العلم إجمالي فلا يعلم أحد من البشر متى تهب الريح في بلاده ومتى تسكن ومتى يشتد الحر في أيام شهور الصيف والبرد في أيام شهور الشتاء بالنسبة إلى سائر الأيام .
ومن
أعظم فوائد الرياح نقلها لمادة اللقاح من ذكور النبات إلى إناثه ، فإن من الشجر ما هو ذكر ومنها ما هو أنثى كالنخل ، فوظيفة الأول تلقيح الآخر وهذا إنما يثمر بتلقيح ذاك له ولا يثمر بغير تلقيح ، وإذا أجيد التلقيح كان سببا لجودة الثمر وإلا فلا . ومنها ما تشتمل كل شجرة منه على أعضاء الذكورة الملقحة وأعضاء الأنوثة المثمرة ، والرياح تنقل اللقاح فيما لا تتصل ذكوره بإناثه نقلا تاما أو ناقصا ، قال الله تعالى : (
وأرسلنا الرياح لواقح ) ( 15 : 22 ) ولما نزلت هذه الآية لم يكن أحد من الناس يعلم هذه الحقيقة فيما يظهر ، حتى الذين كانوا يلقحون النخل بأيديهم ، إذ لم ينقل ذلك عن أحد منهم ولذلك جعل بعض المفسرين اللقح هنا مجازيا بتشبيه تأثير الرياح في السحاب ذلك التأثير الذي يتولد منه المطر بتأثير اللقاح في الحيوان وكونه سببا للحمل والنتاج .
وأما منافع الرياح في إحداث المطر فقد سبق بيانه في تفسير الآية التي جعلنا هذا الاستطراد متمما له بتفسيرها ببيان نعم الله على الخلق بها ، والمطر هو الأصل لمياه الأنهار والينابيع والآبار كما قال تعالى : (
أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ) ( 39 : 21 ) والماء مركب من عنصري الأكسجين والأيدروجين ، ويخالط ماء المطر منه وهو أنقاه بعض ما يحمله الهواء من العناصر من المواد المنفصلة من الهواء وعوالمها ، ومياه الأرض يخالطها كثير من مواردها وبعضها ضار في الشرب وبعضها نافع ولذلك يفضل بعض المياه
[ ص: 435 ] بعضا حتى إن بعضها ينقل في القوارير من قطر إلى أقطار أخرى ويباع فيها غالي الثمن للشرب وما يضر شربه للري والتحليل قد ينفع لغير الشرب ، ومنها المياه المعدنية المسهلة والنافعة لبعض الأمراض دون بعض .
وخلاصة القول : أن
الهواء والماء ، هما الأصلان لحياة جميع الأحياء وللحرارة والنور فيهما ، وسنن الله تعالى في حركتهما وانتقالهما ما علمت ، فهذه الأشياء ( الهواء والماء والنور والحرارة ) أثمن من الذهب والجواهر الكريمة كلها ، وكان من رحمة الله تعالى أن جعلها عامة مبذولة لا يمكن احتكارها ، وإنما ذكرنا من منافعها ما يسهل على كل قارئ للمنار أن يفهمه ، وإلا فإن لها من المنافع والفوائد ما لا يعرفه إلا أساطين علماء الكيمياء والطبيعة ، وهم لا يزالون يزدادون بها علما ، وهذا مصداق لقوله تعالى : (
وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) ( 17 : 85 ) .