(
ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام ) أي : ومن أي مكان خرجت وفي أي بقعة حللت فول وجهك في صلاتك شطر
المسجد الحرام ، فهو حكم عام ، قال الأستاذ الإمام : أعاد الأمر في صورة أخرى ليبين أنه شريعة عامة في كل زمان ومكان لا يختص ببلاد دون أخرى ولا بحضر دون سفر . وقد كان الأمر بالتحويل نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة فأعلمه بصيغة الأمر أنه ليس خاصا بتلك الصلاة ولا بذلك المكان ; بل عليه أن يفعل ذلك من حيث خرج وأين توجه ، ومن مزايا هذه القبلة أن أصحابها يصلون إلى جميع الجهات بتوليهم إياها من أقطار الأرض المختلفة ، وقد وثق الأمر وأكده بقوله : (
وإنه للحق من ربك ) أي : وإن توليك إياه لهو الحق المحكم بوحي ربك فلا ينسخ (
وما الله بغافل عما تعملون )
[ ص: 20 ] أي : إنكم أيها المخاطبون باتباع النبي في كل ما يجيء به من أمر الدين تحت نظر الحق دائما فهو لا يغفل عن أعمالكم (
فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) ( 24 : 63 ) وفي الكلام التفات عن خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى خطاب جميع المكلفين ، بما فيه من التعريض والتهديد للمنافقين ، وقرأ
أبو عمرو ( يعملون ) بالياء ، وهو يعود إلى أولئك المجادلين في القبلة . يقول لنبيه : لا يحزنك أمرهم ; فإن الله تعالى هو الذي يتولى جزاءهم ، وما هو بغافل عن فسادهم وفتنتهم .
(
ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) ابتدأ هذه الآية بصيغة الأمر الواردة في الآية قبلها ، وقرن بها صيغة الأمر السابقة وجمع فيها بين خطاب النبي وخطاب الأمة ; ليرتب على ذلك التعليل وبيان الحكم له وهي ثلاث : الأولى قوله : (
لئلا يكون للناس عليكم حجة ) ليس هذا الجمع والإعادة لمجرد التأكيد كما قال مفسرنا (
الجلال ) وغيره ، وإنما هو تمهيد للعلة وتوطئة ; لبيان الحكم الموصولة به ، وهو أسلوب معهود عند البلغاء ، والمتأخرون الذين لا يذوقون طعم الأساليب البليغة يكتفون في مثل هذا المقام بقولهم : كل ذلك لئلا يكون للناس عليكم حجة ، وهو نظم غير معهود في الكلام البليغ ولا سيما مقام الإطناب والتأكيد والاحتجاج وإزالة الشبه ، والمراد بالناس : المحاجون في القبلة المعروفون ; وهم
أهل الكتاب والمشركون وتبعهما المنافقون .
ووجه
انتفاء حجتهم على الطعن في النبوة بتحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة : هو أن
أهل الكتاب كانوا يعرفون من كتبهم أن النبي الذي يبعث من ولد
إسماعيل يكون على قبلته وهي
الكعبة ، فجعل
بيت المقدس قبلة دائمة له حجة على أنه ليس هو النبي المبشر به ، فلما كان التحويل عرفوا أنه الحق من ربهم ، وأن المشركين كانوا يرون أن نبيا من ولد
إبراهيم جاء لإحياء ملته لا ينبغي له أن يستقبل غير بيت ربه الذي بناه وكان يصلي هو
وإسماعيل إليه ، فدحضت حجة الفريقين وكبت المنافقون من ورائهم (
إلا الذين ظلموا منهم ) أي : لكن الذين ظلموا منهم يظلون يلغطون بالاحتجاج جهلا أو عنادا للإضلال ، كقول
اليهود : رجع إلى قبلة قومه لإرضائهم وسيرجع إلى دينهم ، وقول المشركين : رجع إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا ، وقول المنافقين : إنه مضطرب متردد لا يثبت على قبلة . وأمثال هذه الآراء التي يزينها الهوى للأعداء ، فهم لا يهتدون بكتاب ولا يعتبرون ببرهان ، ولا ينظرون إلى حكم الأمور وأسرارها بل يجادلون في الله وشرعه بلا هدى ولا كتاب منير ، وهم الذين أثاروا الفتنة ، وحركوا رياح الشبه في مسألة القبلة ، ولا قيمة لما يقول هؤلاء الظالمون ; فإنهم هم السفهاء كما وصفوا في الآية الأولى (
فلا تخشوهم ) إذ لا مرجع لكلامهم من الحق ، ولا تمكن له في النفس ; لأنه لا يستند إلى برهان عقلي ولا إلى هدي سماوي ( واخشوني ) أنا ، فلا تعصوني بمخالفة ما جاءكم به
[ ص: 21 ] رسولي عني ، فإنني القدير على جزائكم بما وعدتكم وأوعدتكم ، وقد وعدت الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات بأن أمكن لهم دينهم الذي ارتضيت لهم وأبدلهم من بعد خوفهم أمنا ، وإنني لا أخلف الميعاد .
والآية ترشدنا إلى أن صاحب الحق هو الذي يخشى جانبه وأن المبطل لا ينبغي أن يخشى ; فإن الحق يعلو ولا يعلى ، وما آفة الحق إلا ترك أهله له ، وخوفهم من أهل الباطل فيه .
وذكر الأستاذ الإمام هنا من له شبهة حق كصاحب النية السليمة يشتبه عليه الأمر فيترك الحق لأنه عمي عليه ، ولو ظهر له لأخذ به ، وهو أيضا لا يخشى جانبه ، خلافا لما فهم بعض الطلاب من كلام الأستاذ ، وإنما استثناه من مشاركة الظالمين في عدم المبالاة به ، فأولئك لا يخشون ولا يبالى بهم ، وهذا لا يخشى على الحق ولكنه يبالى به ، ويعتنى بأمره بتوضيح السبيل ، وتفصيل الدليل ، لما يرجى من قرب رجوعه إليه إذا عرفه ، وقوله : (
إلا الذين ظلموا ) يعم
اليهود ومشركي العرب والمنافقين خلافا لمن قالوا : إنهم المشركون خاصة ، مع أنهم فسروا السفهاء بما يعم الفريقين أو الثلاثة ، وما هؤلاء الذين ظلموا إلا أولئك السفهاء الذين اعترضوا .
ثم ذكر العلة أو الحكمة الثانية فقال : (
ولأتم نعمتي عليكم ) باستقلال قبلتكم في بيت ربكم الذي بناه جدكم ، وجعل الأمم فيها تبعا لكم ، وبيانه أن هذا النبي عربي من ولد
إبراهيم ، وبلسان العرب نزل عليه الكتاب ، وهم قومه الذين بعث فيهم أولا وظهرت دعوته فيهم وامتدت منهم وبهم إلى سائر الأمم ، وكانوا إذا آمنوا يحبون أن تكون وجهتهم في عبادتهم بيتهم الحرام ، وأن يحيوا سنة
إبراهيم بتطهيره من عبادة الأصنام ; لأنه معبدهم وأشرف أثر عندهم ، ينسب إلى أبيهم
إبراهيم الذي بناه ورفع قواعده لعبادة الله تعالى ، وهو شرفهم ومجدهم ، وموطن عزهم وفخرهم ، فأتم الله عليهم النعمة بإعطائهم ما يحبون ، وتوجيه جميع شعوب الإسلام إلى بلادهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، وفي ذلك من الفوائد المادية والمعنوية ما لا يحصى من النعم . نعم ; إن
كل أمر من الله تعالى فامتثاله نعمة ، ولكنه إذا كان فيه حكمة ظاهرة وشرف للأمة يتعلق بتاريخها الماضي وبمجدها الآتي ، وكان أثره حميدا نافعا فيها ، تكون النعمة به أتم والمنة أكمل ; ولذلك عبر بالإتمام .
وذكر الأستاذ الإمام
من الحكمة في جعل القبلة في أول الأمر بيت المقدس : أن
الكعبة كانت في أول الإسلام مشغولة بالأصنام والأوثان ، وكان سلطان أهل الشرك متمكنا فيها ، والأمل في انكشافه عنها بعيدا فصرفه الله أولا عن استقبال بيت مدنس بعبادة الشرك - وقد كان الله أمر
إبراهيم بتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود - إلى
بيت المقدس قبلة
اليهود الذين هم أقرب من المشركين إلى ما جاء به من التوحيد والتنزيه ، ولما قرب زمن تطهير
البيت الحرام من الأصنام والأوثان وعبادتها وإزالة سلطة الوثنيين عنه ، جعله الله تعالى قبلة
[ ص: 22 ] للموحدين ; ليوجه النفوس إليه فيكون ذلك مقدمة لتطهيره وإتمام النعمة بالاستيلاء عليه ، والسير فيه على ملة
إبراهيم من التوحيد والعبادة الصحيحة لله تعالى وحده .
أقول : ويؤيده ما قرره الأستاذ الإمام في تفسير الإتمام وكون تحويل القبلة مقدمة له قوله تعالى بعد ذكر فتح
مكة في سورة الفتح : (
ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما ) ( 48 : 2 ) فكان في الآية بشارة بفتح
مكة ، ونصر الله التوحيد على الشرك وما يتلو ذلك من نشر الإسلام ، وانتشار نوره في الأنام ; ولذلك قال في سورة الفتح بعدما ذكر : (
وينصرك الله نصرا عزيزا ) ( 48 : 3 ) .
ثم ذكر سبحانه وتعالى
الحكمة الثالثة لتحويل القبلة فقال : (
ولعلكم تهتدون ) أي : وليعدكم بذلك إلى الاهتداء بالثبات على الحق والرسوخ فيه ، فإن المعارضات والمحاجات تظهر ضعف الباطل وزهوقه ، وتبين قوة الحق وثبوته ، فالحجة تتبختر اتضاحا ، والشبهة تتضاءل افتضاحا ، وقد خلت سنة الكون بأن الفتن تنير الطريق لأهل الحق ، وترخي سدول ظلمته على أهل الباطل ، وتمحص المؤمنين ، وتمحق الكافرين .
كل إنسان يرى نفسه على الحق في الجملة ، ولكن التمكن في المعرفة والثبات على الحق لا يعرف في الغالب إلا إذا وجد للمحق خصم ينازعه ويعارضه في الحق ، هنالك تتوجه قواه إلى تأييد حقه وتمكينه ، ويحس بحاجته إلى المناضلة دونه والثبات عليه ، وكثيرا ما يظهر الباطل الحق بعد خفائه ; فإن المعارضة في الحق تحمل صاحبه على تنقيحه وتحريره وتنقيته مما عساه يلتصق به أو يجاوره من غواشي الباطل ، وتجعل علمه به مفصلا بعد أن كان مجملا ، ومبرهنا عليه بعد أن كان مسلما ، فهي مدرجة الكمال لأهل اليقين ، ومزلة الريب للمقلدين . قال بعض
الصوفية : جزى الله أعداءنا عنا خيرا إذ لولاهم ما وصلنا إلى شيء من مقامات القرب . وقال الشاعر :
عداتي لهم فضل علي ومنة فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها
وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
ذلك بأن العدو ينقب عن الزلات ، ويبحث في الهفوات ، وطالب الحق يتوجه دائما إلى الاستفادة من كل شيء ، والنظر من كل أمر إلى موضع العبرة وطريق الحقيقة ، فإذا وجد في كلام العدو مغمزا صحيحا توقاه ، أو عثارا في طريقه نحاه ، وإن ظهر له أنه باطل ثبت على حقه ، وعرف منافذ الطعن فيه فسدها ، فكان بذلك من الكملة الراسخين ; لهذا كله كانت
الفتنة التي أثارها السفهاء على المؤمنين في مسألة القبلة معدة للاهتداء ووسيلة إلى الثبات على الحق بعد نزول هذه الآيات البينات والحجج الناهضات في بيانه وحكمة الله تعالى فيه .