الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين يقال : غني بالمكان يغنى بوزن " رضي يرضى " إذا نزل به وأقام فيه ، هكذا أطلقوه ، وقيده بعضهم بقيد أو قيدين ، قال
الراغب : وغني في مكان كذا إذا طال مقامه فيه مستغنيا به عن غيره ، واكتفى بعضهم بقيد طول الإقامة ، وبعضهم بالإقامة في رغد عيش .
والآية بيان مستأنف من قبل الله عز وجل ناقض لقول الملأ من
قوم شعيب لقومهم :
لئن اتبعتم شعيبا إنكم إذا لخاسرون وقولهم قبله :
لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا كأن سائلا يسأل عنهم باعتبار كل من الحالين : كيف انتهى الأمر فيها ؟ وكيف كان عاقبة أهلها ؟ فأجيب عن الأول بقوله : الذين كذبوا
شعيبا وهددوه وأنذروه الإخراج من قريتهم قد هلكوا ، وهلكت قريتهم فحرموها كأن لم يقيموا ، ولم يعيشوا فيها مطلقا أو في ذلك العيش الرغيد ، والأمد المديد فمتى انقضى الشيء صار كأنه لم يكن .
وأجيب عن الثاني بقوله : الذين كذبوا
شعيبا ، وزعموا أن من يتبعه يكون خاسرا ، وأكدوا زعمهم بأقوى المؤكدات ، كانوا هم الخاسرين لما يعتزون به من تقاليد ملتهم ، ومن مالهم ووطنهم ، ولما كانوا موعودين به من سعادة الدنيا والآخرة لو آمنوا ، دون الذين اتبعوه فإنهم كانوا هم الفائزين المفلحين ، فالجملة تفيد حصر الخسار في المكذبين له بالنص ، وتقتضي نفيه عن المتبعين له بالأولى ، ومناسبة الجزاء للذنب يجعل الحرص على التمتع بالوطن والاستبداد فيه على أهل الحق سببا للحرمان الأبدي منه ، وجعل الحرص على الربح بأكل أموال الناس بالباطل سببا للخسران بالحرمان منه ومن غيره .
واختار بعضهم في نكتة الفصل والتكرار وجها آخر ، وهو أنه بيان مستأنف من الله تعالى جاء بأسلوب الخطابة العربية المؤثرة في الوعظ والتوبيخ ، وما في معناهما ، نحو : أنت
[ ص: 13 ] الذي جنيت علينا ، أنت الذي سلطت علينا أعداءنا ، أنت الذي فرقت كلمتنا ، أنت الذي أوقعت الشقاق بيننا .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في الكشاف : إن في هذا الاستئناف وتكرير الموصول والصلة مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم ، وتسفيها لرأيهم ، واستهزاء بنصحهم لقومهم ، واستعظاما لما جرى عليهم ا هـ ، وقد خفيت على بعض العلماء الأذكياء دلالة العبارة على هذه المعاني كلها لعدم تأملها ، فأما المبالغة في الرد فظاهرة لما يدركه كل من الفرق في نفسه بين ما مثلنا به آنفا لأسلوب الخطابة ، وبين ذكر تلك المستندات بالعطف ، وسببه أن تكرار ذكر المسند إليه بصيغة الموصول والصلة المؤذن بعلة الجزاء يعيد صورة كل منهما في الذهن ، ويكون حكما جديدا بعد حكم ، وللحكمين من التأثير في النفس ما ليس للحكم الواحد ، وأما تسفيه الرأي والاستهزاء بذلك النصح ، فهو تابع لهذا التأثير المتضمن لما ذكر من التصوير والتمثيل .