صفحة جزء
أين من هذه المقاصد السامية الهادية إلى تزكية النفس وإعدادها لسعادتي الدنيا والآخرة ، صيغة الصلاة في ملة هذا المختصر المستأجر ، وهي كما في إنجيل متى ( أبانا الذي في السماوات ، ليتقدس اسمك ، ليأت ملكوتك ، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض ، خبزنا كفافنا أعطنا اليوم ، واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا ، ولا تدخلنا في تجربة ، ولكن نجنا من الشرير آمين ) ( 6 : 9 - 13 ) أهـ . زاد في نسخة الأميركان : ( لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد ) وجعلوا هذه الزيادة بين علامتي الكلام الدخيل هكذا ( ) فمن ذا الذي زادها على كلام المسيح ؟

وقد يقول لهم من لا يؤمن بأن هذه الصيغة منقولة نقلا صحيحا عن المسيح - عليه السلام - ، أو من لا يؤمن به نفسه : إنها صلاة ليس فيها من الثناء على الله تعالى ما في فاتحة المسلمين ولا بعضه ، وطلب تقديس اسم الأب وإتيان ملكوته تحصيل حاصل ، فهو لغو لا يليق بالعاقل ، [ ص: 69 ] وذكره بصيغة الأمر باللام غير لائق - إن لم نقل في انتقاده ما هو أشد من ذلك - وأبعد من ذلك عن اللياقة والأدب مع الرب تبارك وتعالى طلب كون مشيئته على الأرض كمشيئته في السماء . وكونها بصيغة الأمر باللام أيضا ، فمشيئته تعالى نافذة في جميع خلقه من سمائه وأرضه بالضرورة ، فلا معنى لطلبها ، وطلب المساواة بين السماء والأرض فيها إن أريد به من كل وجه ، فهو تحكم لا يخفى ما يترتب عليه .

وأما طلب الخبز الكفاف في كل يوم بصيغة الحصر فهو يفيد أن كل همهم وكل مطلبهم من ربهم ولو لدنياهم هو الخبز الذي يكفيهم ، فأين هذا المطلب من طلب الهداية إلى الصراط المستقيم الموصل إلى سعادتي الدنيا والآخرة على أكمل وجه ، لكونه نفس صراط خيار الناس دون شرارهم .

وأما مطلب المغفرة - فهو على كونه يليق أن يطلب منه تعالى - ينتقد منه تشبيهها بمغفرة الطالب للمذنب المسيء إليه من وجهين :

( أحدهما ) أن مغفرة الله لعبده أجل وأعظم وأعم من مغفرة العبد لمثله .

( ثانيهما ) أن الذي يغفر لجميع المسيئين إليه نادر ، ومن المشاهد أن أكثر الناس يجزون على السيئة إما بمثلها ، وإما بأكثر منها ، فكيف يكلف هؤلاء بمخاطبة ربهم بالكذب عليه ، الذي حاصله أنهم يطلبون ألا يغفر لهم ، لأنهم لا يغفرون للمسيئين إليهم .

قد يقولون : نعم نحن نلتزم هذا ؛ لأن ديننا يوجب علينا أن نغفر لجميع من أذنب وأساء إلينا ، ونعتقد أن ربنا لا يغفر لنا إذا لم نغفر لهم ؛ لأن من علمنا هذه الصلاة قال بعدها : ( فإنه إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أيضا أبوكم السماوي ، وإن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضا زلاتكم ) ( متى 6 : 14 ) .

فنقول : هذا التعبير يدل على وجوب مغفرة جميع الذنوب لجميع الناس عامة كانت أو خاصة ، فأين منكم يا معشر النصارى من يفعل ذلك ؟ وهل يوجد في الألف أو الألوف منكم واحد كذلك ؟ ألسنا نرى أكثركم ومن تعدونهم أرقاكم وتفتخرون بهم كالإفرنج لا يغفرون لأحد أدنى زلة ، بل لا يكتفون بعقاب من يسئ إلى أحد منهم إذا كان من غيرهم بمثل ذنبه ، وإنما يضاعفون له العقاب أضعافا ، بل ينتقمون من أمته كلها إذا كانت ضعيفة لا يمكنها أن تصدهم بالقوة ، فهم لا يمنعهم من الجزاء على السيئة بأضعافها من السيئات ولا من ابتداء الظلم والعدوان إلا العجز .

التالي السابق


الخدمات العلمية