[ ص: 144 ] أنواع المدركات وعناصر الكون وأحوالها :
إن مدركات البشر الحسية والعقلية لا تتعلق في حال هذه الحياة الدنيا بكل ما في هذا الكون من أنواع الموجودات ، بل هناك حجج من الوحي والعقل والعلم تدل على ضد ذلك - أما الوحي فقد ثبت فيه أن العالم قسمان ، أو أن الكون قسمان : عالم الغيب ، وعالم الشهادة .
وأما العقل فمن أحكامه أن
عدم العلم بالشيء لا يقتضي عدم وجوده ، وأن من الجائز أن يكون في الكون موجودات كثيرة لا ندركها ، ولا تشعر بها حواسنا ومشاعرنا ، إما لعدم استعدادها لإدراكها ألبتة - كما أن بعضها لا يدرك كما يدركه الآخر من الهيئات والألوان والطعوم والروائح مثلا - وإما لضعف الحاسة فينا عن إدراك ما هو من متعلقها لفقد بعض شروط إدراكه ، وقد دل العقل على أن الوجود الممكن الذي نعرفه في الجملة يدل على الوجود الواجب الذي لم يدرك كنهه عقولنا ، بل دل على وجود آخر من الممكنات ، وهو ما يسميه علماء الكون بالأثير .
وأما العلم - علم التجربة والبحث العملي في الوجود - فقد أثبت وجود أحياء كثيرة الأنواع ذات تأثير عظيم في حياة الأحياء من نفع وضر ترى بالمرايا المكبرة دون البصر المجرد ، وأن فيه مواد أخرى لطيفة هي من أصول عناصره التي لم يتم تكوينه إلا بها ، وهي لا تدرك بالحواس ولا بالعقل بادئ بدء ، وإنما عرفت بأعمال التحليل والتركيب وآلاتها ، واستخدمت لكثير من المنافع والمضار ، وهي كالعناصر التي يتركب منها الماء والهواء .
وقد ثبت بالتجارب العلمية ما صار العلم به قطعيا يدخل في باب الحسيات من أن الجسم الجامد يتحول بالحرارة إلى مائع كما يكون الجليد والثلج ماء ، وأن المائع يتحول بها إلى بخار ، وهو ما نشاهده كالدخان اللطيف يخرج من الماء عند تسخينه ، ومن كل مائع فيه ماء ، وأن هذا البخار المائي وغيره يتحول بشدة الحرارة إلى مادة لا ترى كالهواء ويسمونها غازا ، وأن الأجسام الجامدة كالذهب والقصدير ، والمائعة كالماء ، والغازية كالهواء منها البسيط ومنها المركب ، وأن البسائط التي تتألف منها المركبات محدودة تعد بالعشرات ، وصار في قدرة الشر أن يحللوا المركب ، ويفرقوا بسائطه بعضها من بعض بصناعة الكيمياء وآلآتها ، وأن يحولوا الجوامد من صفتها فيجعلوها غازات ، وأن يجعلوا من الغازات ومن السائلات جوامد ، وهم يتخذون منها أغذية وأدوية وسموما قاتلة ، بل استخرجوا من ماء البحر الملح ذهبا إبريزا .
هذه الأعمال التي صارت من صنائع البشر تقرب من العقل والعلم ما صح عن الرسل المعصومين من أن الملائكة وغيرهم من الجن يتشكلون في صور كثيفة ترى بالأبصار وبصور لا ترى بالأبصار ؛ أي : أن الله - تعالى - أعطى أرواحهم قوة يتصرفون بها في مادة الكون وفي
[ ص: 145 ] أنفسهم بأعظم من تصرف عالم الكيمياء في نفسه ، ولكنه من جنسه ، فقد أعطى الله - تعالى - الواحد منهم قدرة على تأليف جسم لروحه من هذه المادة إذا شاء ، وحله وتفريقه متى شاء ، وقد وضحنا هذا التقريب من قبل ، وغرضنا من التذكير به هنا إيضاح مسألة
تجلي الرب سبحانه وتعالى في الصور أو من وراء الحجب ، وكون رؤيته لا تقتضي تشبيهه بخلقه كما زعم من لم يعلموا من أنواع الإدراك والمدركات المخلوقة ما يقتضي تشبيه بعضها ببعض ، وقد قال - تعالى - :
ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ( 17 : 85 ) .