[ ص: 268 ] ( تفصيل القول في ترجمة القرآن ) كتبنا في فاتحة المجلد ( 26 ) من المنار مقالا في مسألة
ترجمة القرآن نذكر هنا منه ما يلي :
بسم الله الرحمن الرحيم
الر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ( سورة يوسف 12 1 ، 2 ) .
وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا ( سورة طه 20 : 113 ) .
ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين ( الأحقاف 46 : 12 ) .
ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون ( سورة الزمر 39 : 27 ، 28 ) .
حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون ( سورة فصلت 41 : 1 - 3 ) .
حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ( الزخرف 43 : 1 - 4 ) .
وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير ( سورة الشورى 42 : 7 ) .
وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين وإنه لفي زبر الأولين أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين ( سورة الشعراء 26 : 192 - 199 ) .
قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ( سورة النحل 16 : 102 ، 103 ) .
ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ( سورة فصلت 41 : 44 ) .
[ ص: 269 ] وكذلك أنزلناه حكما عربيا ، ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق ( سورة الرعد 13 : 37 ) .
أما بعد ، فهذه آيات محكمات هن أم الكتاب في هذا الباب ، تجاوزن جمع القلة إلى جمع الكثرة ، وعدون إشارات الإيجاز وحدود المساواة إلى باحة الإطناب ، ينطقن بنصوص صريحة لا تحتمل التأويل ، ولا تقبل التبديل ولا التحويل ، بأن الله تبارك وتعالى هو الذي أنزل هذا الكتاب الذي جعله آخر كتبه ، على خاتم أنبيائه ورسله قرآنا عربيا ، وأنه هو الذي جعله قرآنا عربيا ، وأنه هو الذي أوحاه قرآنا عربيا ، وأنه هو الذي فصل آياته قرآنا عربيا ، وأن الروح الأمين نزل به على قلب خاتم النبيين بلسان عربي مبين ، وأنه ضرب فيه للناس من كل مثل ، والمراد بالناس أمة الدعوة من جميع الملل والنحل ، حال كونه قرآنا عربيا غير ذي عوج ، وأنه أمر خاتم رسله أن ينذر به ( أم القرى ) ومن حولها من جميع الورى ، وأنه على إنزاله إياه قرآنا عربيا للإنذار والذكرى ، والوعيد والبشرى ، لعلهم يعقلون ولعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا ، أنزله حكما عربيا ، وأمر من أنزله عليه أن يحكم بين جميع الناس بما أراه الله فيه من الحق والعدل ، الذي جعله فيه حقا مشاعا لا هوادة فيه ولا محاباة لقرابة ولا فضل ، فقال :
إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ليحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما اقرأ الآيات ( من سورة النساء 4 : 5 10 - 114 ) بطولها ، وراجع سبب نزولها فعلم من هذه الآيات المحكمة أن القرآن هداية دينية عربية ، وأنه حكومة دينية مدنية عربية ، عربية اللسان ، عامة لجميع شعوب نوع الإنسان .
وصلوات الله وتحياته المباركة الطيبة على
محمد النبي العربي الأمين ، الذي جعله سيد ولد
آدم وفضله على جميع النبيين والمرسلين ، بإكمال دينه بلسانه ، وعلى لسانه وإرساله لجميع العالمين ، وجعل هداية رسالته باقية إلى يوم الدين ، بقوله عمت رحمته :
وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ( 21 : 107 ) وقوله تبارك اسمه :
تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ( 25 : 1 ) وقوله تعالى جده :
وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( 34 : 28 ) وقوله جل جلاله :
ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما ( 33 : 40 ) وقوله عم نواله فيما أنزله عليه في حجة الوداع يوم الحج الأكبر :
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ( 5 : 3 ) .
وقد بلغ صلوات الله وسلامه عليه دعوة ربه كما أمر ، فبدأ
بأم القرى ثم بما حولها من
جزيرة العرب وشعوب العجم ، باللسان العربي الذي قضى الله أن يوحد به ألسنة جميع الأمم ، فيجعلهم أمة واحدة بالعقائد والعبادات والآداب والشرع واللغة ; ليكونوا بنعمته إخوانا
[ ص: 270 ] لا مثار بينهم للعداوات التي تفرق بين الناس بعصبيات الأنساب والأقوام والأوطان والألسنة فكتب ـ صلى الله عليه وسلم ـ كتبه إلى
قيصر الروم وكسرى الفرس ومقوقس مصر بلغة الإسلام العربية ككتبه إلى ملوك العرب وأمرائهم ، وبلغ أصحابه ما أمر الله به أمته من تعميم الدعوة ، وبشرهم بأن نورها سينتشر ما بين المشرق والمغرب ، فصدع الصحابة والتابعون لهديهم ، وجميع دول الإسلام من بعدهم ، بما أمروا به من نشر هذا الدين بلغته ، في كلا قسمي شريعته عبادته وحكومته .
فكان الإسلام ينتشر في شعوب الأعاجم من قارات الأرض الثلاث (
آسية وأفريقية وأوربة ) بلغته العربية ، فيقبل الداخلون فيه على تعلم هذه اللغة بباعث العقيدة ، وضرورة إقامة الفريضة ، ولا سيما فريضة الصلاة التي هي عماد الدين ، وأعظم أركانه بعد التصريح بالشهادتين ، اللتين هما عنوان الدخول فيه ، على أنهما من أعمال الصلاة أيضا ، فكان تعلم العربية من ضروريات الإسلام ، عند جميع تلك الشعوب والأقوام ، بالإجماع العلمي العملي التعبدي والسياسي ، إلا ما كان من تقصير دولة
الترك العثمانيين ، بعدم جعل العربية لغة رسمية للدواوين ، كسلفهم من
السلجوقيين والبويهيين ، حتى بعد تنحلهم للخلافة الإسلامية ورفع ألويتهم على مهد الإسلام من البلاد الحجازية ، فآل ذلك إلى التعارض والتعادي بين العصبية التركية اللغوية ورابطة الإسلام ، فالتفرق والتقاتل بين الترك والعرب ، فإلغاء الخلافة العثمانية ، فإسقاط دولة
آل عثمان ، وتأليف جمهورية ، تركية العصبية والتربية والتعليم ، أوربية العادات والتقنين والتشريع ، وإبطال ما كان في الدولة من المصالح الإسلامية ، كمشيخة الإسلام والأوقاف والمدارس الدينية والمحاكم الشرعية ، وصرحوا بأن حكومتهم هذه مدنية غربية لا دينية وأنهم فصلوا بين الدين والدولة فصلا باتا كما فعلت الشعوب الإفرنجية ، على أنهم لما وضعوا قانون هذه الجمهورية قبل التجرؤ على كل ما ذكر ، وضعوا في مواده أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام مراعاة للشعب التركي المسلم ، كما وضعوا فيه موادا أخرى تنافي الإسلام من استقلال المجلس الوطني المنتخب بالتشريع بلا قيد ولا شرط ، ومن إباحة الردة واستحلال ما حرم الشرع . وظهر أثر ذلك بالقول والفعل ، كالطعن الصريح في الدين والاستهزاء به حتى في الصحف العامة وكإباحة الزنا والسكر للمسلمين والمسلمات ، وبروز النساء التركيات في معاهد الفسق ومحافل الرقص كاسيات عاريات ، مائلات مميلات إلى غير ذلك من منافيات الدين . . . .
ولكن هذا كله لم يرو غليل العصبية اللغوية التورانية ، ولم يذهب بحقدها على الرابطة الإسلامية ، وآدابها الدينية العربية ، بل كان من كيدها لها السعي لإزالة كل ما هو عربي من نفس الشعب التركي ولسانه ، وعقله ووجدانه ; ليسهل عليهم سله من الإسلام ، بمعونة التربية
[ ص: 271 ] الجديدة والتعليم العام ، بل عمدوا إلى هذه الشجرة الطيبة ، الثابت أصلها ، الراسخ في أرض الحق والعدل والفضل عرقها ، الممتد في أعالي السماء فرعها ، التي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، عمدوا إليها لاجتثاث أصلها واقتلاع جذرها بعد ما كان من التحاء عودها ، وامتلاخ أملودها ، وخضد شوكتها وعضد خصلتها ، بعد أن نعموا بضعة قرون بثمرتها ، وإنما تلك الشجرة الطيبة هي القرآن الكريم الحكيم المجيد العربي المبين ، هي الزيتونة المباركة الموصوفة بأنها لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ، فإذا مسته نار الإيمان بحرارتها اشتعل نورا على نور
يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم ( 24 : 35 ) .
وإنما أعني بقطع هذه الشجرة المباركة من أرض الشعب التركي محاولة حرمانه منه ، ذلك بأنهم ترجموا القرآن بالتركية لا ليفهمه الترك ، فإن تفاسيره بلغتهم كثيرة ، وكان من مقاصد إبطال المدارس الدينية إبطال دراستها ( أي التفاسير حتى التركية ) وحظر مدارسة كتب السنة وكتب الفقه ونحوها ; لأنها مشحونة بآيات القرآن العربية ، وبالأحاديث النبوية العربية ، وبآثار السلف الصالح العربية ، وبالحكم والأمثال وشواهد اللغة العربية ، وهم يريدون محو كل ما هو عربي من اللغة التركية ، ومن أنفس الأمة التركية ، حتى إنهم ألفوا جمعية خاصة لما عبروا عنه بتطهير اللغة التركية " من اللغة العربية ، واقتراح بعضهم كتابة لغتهم بالحروف اللاتينية ، وإذا طال أمد نفوذ الملاحدة في هذا الشعب الإسلامي الكريم ، فإنهم سينفذون هذا الاقتراح قطعا كما نفذوا غيره حتى استبدال قرآن تركي بلغة بعض ملاحدة التورانيين ، بالقرآن الذي نزل به الروح الأمين ، على قلب خاتم النبيين ، بلسان عربي مبين ، المتعبد بألفاظه العربية بإجماع المسلمين ، والمعجز ببلاغته العربية لجميع العالمين ، وكونه حجة الله تعالى عليهم إلى يوم الدين .
أرأيت أيها القارئ هذا الخطب العظيم ؟ أرأيت هذا البلاء المبين ؟ أرأيت هذه الجرأة على رب العالمين ؟ أرأيت هذه الصدمة لدين الله القويم ؟ ثم أرأيت هذا الشنآن والاحتقار لإجماع المسلمين ؟ ورفض ما جروا عليه مدة ثلاثة عشر قرنا ونصف ؟ ثم أرأيت بعد هذا كله ما كان من تأثير ذلك في مصر أعرف بلاد الإسلام في الفنون العربية ، والعلوم الإسلامية ! .
لقد كان من تأثير ذلك ما هو أقوى البراهين ، على فوضى العلم والدين ، واختلال المنطق وفساد التعليم ، والجهل الفاضح بضروريات الإسلام وشئون المسلمين ، ولقد كان أثر ذلك الجدال والمراء ، وتعارض الآراء والأهواء وتسويد الصحائف المنشرة ، بمثل ما شوهوها به في مسألة الخلافة ، وقد كان يجب أن تكون مسألة القرآن أبعد عن أهواء الخلاف ، للنصوص
[ ص: 272 ] الكثيرة الصريحة فيها ، وإجماع السلف والخلف بالعلم والعمل عليها ، وعدم شذوذ أصحاب المذاهب والفرق حتى المبتدعة عنها ، فقد كثر الخلاف والتفرق في الدين ، وتعددت الأحزاب والشيع في المسلمين ، على ما ورد في النهي عن ذلك والوعيد عليه في الآيات الصريحة ، والأحاديث الصحيحة ، وارتد بعض الفرق عن الدين ، بضروب من فاسد التأويل ، وسخافات من أباطيل التحريف ، كما فعل زنادقة
الباطنية ، وغيرهم ، قبل أن يقووا ويصرحوا بكفرهم ، ولم تقم فرقة تنتمي إلى الإسلام بترجمة القرآن ولا ضلت طائفة بترجمة أذكار الصلاة والآذان ; لأجل الاستغناء بها في التعبد لله ، عن اللفظ المنزل من عند الله ، وإنما قصارى ما وقع من الخلاف فيما حول ذلك من فروع المسألة ، ومن تصوير الفقهاء للوقائع النادرة ، أنه إذا أسلم أعجمي مثلا ، وأردنا تعليمه الصلاة فلم يستطع لسانه أن ينطق بألفاظ الفاتحة فهل يصلي بمعانيها من لغته ، أم يستبدل بها بعض الأذكار العربية المأثورة مؤقتا ريثما يتعلم القرآن كما ورد في بعض الأحاديث ، أم يصلي بترجمة الفاتحة بلغته ؟ نقل القول الأخير عن
أبي حنيفة وحده مع مخالفة جميع أصحابه له ، ونقل عنه أنه رجع عنه إلى الإجماع ، وما ينقل عن أحد من المسلمين أنه عمل به ( على أنه لا حجة في عمل أحد ولا في قوله ، غير المعصوم ) فكان هذا الإجماع العام المطلق مما يؤيد حفظ الله تعالى للقرآن ، وأراد ملاحدة الترك أن يبطلوه في هذا الزمان
يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ( سورة الصف 61 : 8 ، 9 )