صفة ترجمات القرآن التركية :
وقد نشرت جريدة الأخبار المصرية رسالة لمراسلها من
الآستانة في هذا الموضوع جاء فيها : بعد الموافقة على ترجمة الترك للقرآن وتحبيذها ما نصه : " كان أول مترجم للقرآن الكريم
زكي أفندي مغامز ، وهو مسيحي سوري ، وقد اطلعنا على ترجمته صدفة قبل طبعها ، فأبدينا رأينا في الحال ، وكنا السبب في عدم طبعها ثم قام على أثر ذلك الشيخ
محسن فاني ( هو حسين كاظم بك ) أحد أعلام
تركيا في الأدب والفضل ، وتصدى لترجمة القرآن الكريم مع جماعة من زملائه ، وقد رأيناه لا يؤدي المعاني حقها ، لا يؤديها في أحسن صورة يمكن أن تؤدى بها في اللغة التركية ; ولذلك فإننا انتقدناه مرارا .
[ ص: 301 ] " ثم قام بعدهما
جميل سعيد بك حفيد
كمال باشا ناظر المعارف الأسبق ، فترجم القرآن لقد كان المنتظر أن تكون الترجمة الثانية أحسن وأكمل من الأول إنما لم يتحقق ذلك الأمل ، ولذلك فإننا قد انتقدنا
جميل بك أمر انتقاد ، ولم نترك له أي منفذ للتخلص ، وقد أراد حضرته أن يجيبنا على انتقاداتنا بتخفيف أهمية أخطائه فلم يفلح في ذلك ، بل كان جوابه أعدل شاهد على أنه غير كفء للعمل الذي أراد أن يقوم به ، والأدهى من ذلك أننا عند انتقادنا له ظننا أنه ترجم القرآن من لغة من لغات
أوربا ، لا من أصله العربي ، واستدللنا على ذلك ببعض الدلائل ، فلم يستطع أن يجيبنا على ذلك ببنت شفة ; ولذلك فإننا في مقالتنا الثانية شددنا عليه الحملة لآخر درجة ، وقلنا له : إنه فضح الشعب التركي باقتراف هذه الجريرة المدهشة ; لأن الشعب التركي شعب مسلم منذ عشرات القرون ، شعب يخدم المدنية الإسلامية ويتولى زعامة الأمم الإسلامية منذ قرون ، شعب يفهم القرآن الكريم من أصله العربي منذ قرون شعب أنجب المئات من العلماء الذين فسروا القرآن ، وتبحروا في جميع العلوم المستفادة منه . فعار أن يقرأ ترجمة القرآن في هذا القرن من لغة مبشر متعصب .
وقد أخرجنا لذلك المترجم كثيرا من أخطائه التي لم يستطع أن يرد عليها ، وعدا هذا فإن رياسة الأمور الدينية في أنقرة لم تتأخر مطلقا في القيام بواجبها ، بل إنها عند انتشار كل ترجمة من هذه التراجم حذرت الناس منها ، ونبهتهم إلى ما فيها من التحريفات . وبذلك قضت على تلك الكتب بما تستحقها انتهى المراد منه .
وجاء في جريدة الأهرام في 29 من رمضان سنة 1342 هـ ما نصه : ترجمة القرآن بالتركية
أقدم فريق من الترك أخيرا على تنفيذ الفكرة التي طالما تمنوا تنفيذها ، وهي أن يترجموا القرآن بالتركية ، ويستغنوا به عن النظم العربي المبين ، فشرع
مصطفى أفندي العينتابي وزير الحقانية السابق ، والشيخ
محسن فاني ،
ومصطفى بك ،
وسيف الدين بك في نشر الترجمة التركية بأقلامهم ، وقد أنشأت مجلة ( سبيل الرشاد ) التركية مقالة علمية في انتقاد هذه الترجمة ، وبيان مواطن الخلل فيها ، وقدمت لذلك نموذجا من الغلطات الموجودة في ترجمة ( سورة الفاتحة ) فقط فبلغت ست غلطات لا يجوز التسامح في واحدة منها . فمن ذلك خطؤهم في وضع لفظ يدل على المعنى المندمج في حرف ( أل ) من ( الحمد ) وحشوهم لفظا زائدا في ترجمة الرحمن الرحيم وتقول المجلة التركية : إنهم قطعوا بذلك نظم الكلمات القدسية بل سحقوا ما فيها من الدرر ، وترجموا وغيروا لفظ يوم الدين بلفظ يوم القيامة .
[ ص: 302 ] وقد أبانت المجلة التركية الفروق العظيمة بين اللفظين وزادوا في الفاتحة نداء " يا الله " مرتين بلا لزوم . وبذلك حولوا بلاغة القرآن وإيجازه إلى شكل غير لطيف . وترجموا كلمة ( اهدنا ) بلفظ " أرنا " قالت المجلة : وبذلك نحوا نحو مذهب
المعتزلة ، ولا ندري أقصدوا ذلك أم هي رمية من غير رام ؟ وحرفوا نظم
صراط الذين أنعمت عليهم فجعلوا " الصراط " في الترجمة مفعول الإنعام ، وهو مفعول الهداية ، فجاءت ترجمتهم هكذا : " الصراط الذي أنعمته على غير المغضوب عليهم ولا الضالين " .
قالت مجلة سبيل الرشاد : والحق أن جرأة أناس هذا مبلغ علمهم بلغة القرآن ، على أن يترجموا القرآن لمما يدعو إلى الأسف ، وإنه لإثم عظيم . قالت : ورجاؤنا إليهم أن يستغفروا الله مما ارتكبوا من الإثم العظيم ، وأن يتوبوا إليه ويتحولوا عن هذا العمل السقيم الذي حاولوه اهـ .
وتقول : بلغنا أنهم لم يتوبوا ، وأنهم مأمورون بذلك من حكومة أنقرة ، وأن ترجمتهم ستكون الرسمية والله أعلم .
قد علم مما تقدم أن كل ترجمة حاولها
الترك قاصرة عن أداء معاني القرآن الظاهرة التي يفهمها كل قارئ ، ويسهل التعبير عنها بكل لغة ، دع ما أشرنا إليه من المعاني الدقيقة ، والأوصاف الممتازة في البلاغة ، وأسماء الله تعالى وصفاته وعالم الغيب ، والتعبير عنها بالمفردات والجمل والأساليب الخاصة باللغة العربية دون لغات العجم ولاسيما التركية الفقيرة ، وهذا يفتح أبوابا واسعة للشبهات والمطاعن فيه ، ويسد أبوابا واسعة لضروب من التفسير والتأمل الدافعة لها ، وضروب من المعارف هي من أعظم الآيات البينات له . وقد علمنا أن
الترك حظروا تعليم اللغة العربية وفنونها والعلوم الشرعية في بلادهم . فعلى هذا لا يجد قارئ ترجمتهم التركية للقرآن في الأجيال الآتية مرجعا لتفسير هذه الترجمة إذا هو استشكل أو طعن له أحد في شيء منها .
وأضرب لذلك من المثل قوله تعالى :
والتين والزيتون ( 95 : 1 ) الذي سأل عنه
مصطفى كمال باشا بعض علمائهم ، فأجابه بأن الجواب لا يمكن بيانه في أقل من نصف ساعة ، فهزأ به الباشا ، وأراد أن يجعله مثلا في الجهل ، وهو أجدر بهذا الوصف في هذا المقام لتوهمه أنه يكفي في الجواب أن يذكر له مرادف التين بالتركية وهو " انجير " ، وذلك العالم يعذر إذا اعتقد أن هذا الرجل الكبير في مقامه وفي معارفه العسكرية لا يعقل أن يسأل عن تفسير بعض المفردات العربية بما يقابلها في التركية واعتقد أنه إنما يريد بالسؤال معنى إقسام الله تعالى ببعض الشجر والبقاع والبلاد وحكمته ، كما إذا سأل هذا الفقيه من الباشا عما يسميه رجال الحرب " خط الرجعة " مثلا ، فإنه لا يمكن أن يريد بذلك تفسير كلمة خطوكلمة الرجعة لغة .
[ ص: 303 ] ولعل ذلك العالم كان يعتقد أن الباشا لم يسأل هذا السؤال إلا وهو منكر لورود القسم بالتين والزيتون ، كما يؤخذ من كلام له كثر نقله عنه ، وهو احتقار التعاليم والنظم التي وضعت في صدر الإسلام ، وزعمه أنها وضعت لقوم منحطين في الحضارة والفنون ، فلا يليق اتباعها في هذا العصر الذي ارتقت فيه الصناعات والفنون والمعارف المادية ، واستباح المترفون فيه الرذائل باسم المدنية ، فأراد أن يزيل من فكره هذه الشبهات الجهلية ، ويبين له معنى صيغة القسم عند العرب ، وهو تأكيد الكلام وحكمة ما في القرآن من الإقسام بالمخلوقات كالتذكير بما فيها من الآيات ، ومناسبة كل قسم منه أقسم به عليه لتوكيده ، كالإقسام بالنجم على هداية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورشاده ; لأن كلا منهما يهتدى به ، ثم الانتقال من ذلك إلى ما ورد في التفسير المأثور مناسبا لذلك ، ولا بأس ببيان ذلك وإن طال الاستطراد ; إزالة لشبهة
مصطفى كمال باشا وأمثاله لئلا يكون تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة فنقول : .
إن الجمع في قوله تعالى :
والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين ( 95 : 1 - 3 ) بين نوعين من الشجر وموقعين من بقاع الأرض لم يكن إلا لمناسبة جامعة بينهما كما هو المعهود في التنزيل ، وفيما دونه من كلام البلغاء أيضا ، ولما كان من المعلوم قطعا أن طور سينين ( أي
سيناء ) مهبط الوحي على
موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومظهر نبوته - وأن البلد الأمين (
مكة ) مهبط الوحي على
محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومظهر نبوته - ترجح أن يكون المراد بالتين والزيتون الكناية عن مظهرين من مظاهر النبوة والدين ، كما يكنى بالأهرام أو أبي الهول عن حضارة الفراعنة ، وبشجر الأرز عن
جبل لبنان مثلا .
وإذا رجعنا للتفسير المأثور عن السلف في ذلك نرى فيه عن ترجمان القرآن وحبر الأمة
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قولين : ( أحدهما ) ما رواه عنه
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير ،
nindex.php?page=showalam&ids=16328وابن أبي حاتم وابن مردويه في تفاسيرهم ، وهو أن المراد بالتين مسجد
نوح ( عليه السلام ) الذي بناه على الجودي - أي حيث استوت سفينته بعد الطوفان ، والزيتون
بيت المقدس ، وطور سينين
مسجد الطور ، والبلد الأمين
مكة . ( ثانيهما ) ما رواه عنه الأخير من أن المراد بالتين والزيتون
المسجد الحرام والمسجد الأقصى حيث أسري بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلخ . ويقوي الأول تعدد رواته وموافقة التاريخ له كما بينه شيخنا الأستاذ الإمام من وجه آخر في تفسير السورة من جزء " عم " ، فإنه قال بعد حكاية أشهر أقوال المفسرين ما نصه : .
" وقال قليل من المفسرين إن الإقسام هو بالنوعين لذاتهما التين والزيتون . قالوا : لكثرة فوائدهما ، ولكن تبقى المناسبة بينهما وبين طور سينين والبلد الأمين وحكمة جمعهما معهما في نسق واحد غير مفهومة ; ولهذا رجح أنهما موضعان ، وقد يرجح أنهما النوعان من الشجر ، ولكن لا لفوائدهما كما ذكروا ، بل لما يذكر أن به من الحوادث العظيمة التي
[ ص: 304 ] لها الآثار الباقية في أحوال البشر . قال صاحب هذا القول : إن الله تعالى أراد أن يذكرنا بأربعة فصول من كتاب الإنسان الطويل من أول نشأته إلى يوم بعثة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فالتين إشارة إلى عهد الإنسان الأول ، فإنه كان يستظل في تلك الجنة التي كان فيها يورق التين ، وعندما بدت له ولزوجه سوآتهما طفقا يخصفان عليهما من ورق التين . والزيتون إشارة إلى عهد
نوح عليه السلام وذريته ، وذلك ; لأنه بعد أن فسد البشر ، وأهلك الله من أهلك منه بالطوفان ، ونجى
نوحا في سفينته واستقرت السفينة ، نظر
نوح إلى ما حوله فرأى المياه لا تزال تغطي وجه الأرض فأرسل بعض الطيور لعله يأتي إليه بخبر انكشاف الماء عن بعض الأرض فغاب ولم يأت بخبر ، فأرسل طيرا آخر فرجع إليه يحمل ورقة من شجر الزيتون فاستبشر وسر وعرف أن غضب الله قد سكن ، وقد أذن للأرض أن تعمر . ثم كان منه ومن أولاده تجديد القبائل البشرية العظيمة في الأرض التي محي عمرانها بالطوفان ، فعبر عن ذلك الزمن بزمن الزيتون . والإقسام هنا بالزيتون للتذكير بتلك الحادثة ، وهي من أكبر ما يذكر به من الحوادث ، وطور سينين إشارة إلى عهد الشريعة الموسوية ، وظهور نور التوحيد في العالم بعد ما تدنست جوانب الأرض بالوثنية ، وقد استمر الأنبياء بعد
موسى يدعون قومهم إلى التمسك بتلك الشريعة إلى أن كان آخرهم
عيسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ جاء مخلصا لروحها مما عرض عليه من البدع ، ثم طال الأمد على قومه فأصابه ما أصاب من قبلهم من الاختلاف في الدين ، وحجب نوره بالبدع ، وإخفاء معناه بالتأويل ، وإحداث ما ليس منه بسبيل ، فمن الله على البشر ببداية تاريخ ينسخ جميع تلك التواريخ ، ويفصل بين ما سبق من أطوار الإنسانية وبين ما يلحق ، وهو عهد ظهور النور المحمدي من
مكة المكرمة ، وإليه أشار بذكر البلد الأمين . وعلى هذا القول الذي فصلنا بيانه يتناسب القسم والمقسم عليه كما سترى " انتهى المراد منه .
ومن هذا الشرح تعلم أن ذلك العالم التركي على علم لا يشاركه
مصطفى كمال باشا في شيء منه ، وأنه مصيب في تقدير زمن الجواب بنصف ساعة ، كما تعلم أن الترجمة التركية لن تكون إلا قاصرة عن احتمال مثل هذا التفسير ، وأنها تمهيد للإضلال والتكفير .
سبحان الله ! أنشك في كون مراد ملاحدة
الترك بترجمة القرآن التوسل بها إلى الطعن فيه ، والتشكيك في كونه كلام الله عز وجل ، وإقامة الشبهات على بطلان دين الإسلام ، وترك المسلم منهم في ظلمات لا يبصر فيها بصيصا من النور يهتدي به إلى الدفاع عن دينه ؟ أنشك في هذا بعد إقدامهم على إبطال التشريع الإسلامي من حكومتهم حتى في الأحكام الشخصية من زواج وطلاق وإرث ، تفضيلا للتشريع الأوربي عليه على اختلافه ، وإبطال التعليم الإسلامي من بلادهم ، واضطهاد علماء الدين حتى في ملابسهم ، فقد أكرهوهم على
[ ص: 305 ] لبس الزي الخاص بغير المسلمين كغيرهم ، ولم يبالوا بمراعاة وجدان أحد ولا اعتقاده في أن ذلك معصية لله تعالى بل هو آية الردة عن دينه - فعلوا هذا والسواد الأعظم من الشعب التركي يدين لله بالإسلام وجدانا وتسليما يحمله على الفضائل ، ويزعه عن الرذائل ، ولعلماء الدين احترام عنده ، ثم لم يستطع أحد منهم أن يدافع عن دين الشعب بكلمة مع كون مادة القانون الأساسي للجمهورية التركية الناطقة بأن دين الدولة هو الإسلام لما تنسخ - كما نسخت أحكام الإسلام نفسها ، ذلك بأن من عارض الحكومة في عمل من أعمالها هذه يساق إلى محكمة خاصة تسمى محكمة الاستقلال ، مفوضة بأن تحكم بالقتل للدفاع عن هذه الحكومة اللادينية من غير استناد إلى شرع منزل ، ولا قانون مدون ، ويكون حكمها نهائيا لا استئناف له ، ولا مراجعة فيه ، وقد قتل كثير من العلماء والأتقياء للمعارضة في وضع القلنسوة الإفرنجية ( البرنيطة ) موضع العمامة واستبدالها بها ؟ ! .
هذا ما يجري اليوم فماذا يكون في الغد إذا لم يجد المسلم التركي بين يديه في بلاده من كتب دينه إلا ترجمة للقرآن بالصفة التي عرفت أغلاطها وقصورها ؟ نعم إن هؤلاء الملاحدة أنفسهم سيفسرونها له بما يزيده بعدا عن الإسلام ، ويعده للكفر به وعداوته وعداوة أهله ، إن طال أمر استبدادهم فيه .
لا تقل : وما يمنع بقية أهل الدين منهم أن يفسروها بالتركية تفسيرا يصحح الأغلاط ويدفع الشبهات ؟ فإن الذين منعوا ما علمت يمنعون هذا أيضا ، وينشرون تفاسير ملاحدتهم المؤيدة لغرضهم ، وهم يستمدونها من خصوم الإسلام كدعاة النصرانية ، وشياطين السياسة الأوربية ، وملاحدة المادية ، دع ما يمليه عليهم الجهل أو الكفر .
أذكر مثالا واحدا من ذلك قوله تعالى :
واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ( 15 : 99 ) بلغني من عالم عربي أقام في
الآستانة سنين كثيرة يخالط علماءهم عن عالم تركي أعرفه ، وكنت أعده من أفضل علمائها الجامعين بين العلم والتدين ومعرفة حال العصر أنه يشتغل بترجمة القرآن ، وأنه يقول بقول الباطنية الأولين في هذه الآية وهو : أن العبادة من صلاة وصيام لم تفرض إلا على من لم يصلوا في العلم إلى درجة اليقين ، ومن وصل إلى هذه الدرجة ترتفع عنه العبادة بنص هذه الآية من القرآن ، ويكفي هذا التأويل لإبطال جميع عبادات الإسلام . فإن اليقين أمر يمكن لكل أحد أن يدعيه ، ويمكن إضلال جماهير الناس بالوصول إليه ، وفي التحكم فيما يطلب اليقين فيه .
ونقول في إبطال هذه الضلالة ( أولا ) : إنها طعن صريح في النبي الأعظم صلوات الله وسلامه عليه بأنه لم يكن على يقين في دينه وعلمه بالله عز وجل ، فإن الخطاب له ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الآية ، وهو المعني به أولا وبالذات وإن كان الحكم عاما ، وذلك بالتبع لما قبله من
[ ص: 306 ] الامتنان عليه بإيتائه السبع المثان والقرآن العظيم ، وأمره بالتبليغ والصدع به ، وتهوين أمر المشركين عليه ، وإنبائه بكفايته تعالى أمر المستهزئين منهم . بعد هذا قال :
ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ( 15 : - 97 - 99 ) وقد ورد في التفسير المأثور أن المراد باليقين الموت ، وأن المعنى : واعبد ربك ما دمت حيا . ونقلوا شواهد له من الاستعمال . وفسروا به قوله تعالى حكاية عن أهل النار :
وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين ( 74 : 46 ، 47 ) .
( ثانيا ) إن أصل اليقين شرط في صحة الإيمان ، والإيمان الصحيح شرط في صحة العبادة فاليقين في الإسلام مبدأ لا غاية ، والحنفية الذين تلقى هذا التركي الدين على مذهبهم يقولون : إن الإيمان لا يقبل الزيادة ولا النقصان ; لأن التصديق إذا لم يكن يقينا لا يكون إيمانا ، وليس فوق اليقين غاية تكون هي الزيادة ، وفي هذا البحث نظر ليس هذا محله .
( ثالثا ) إن اليقين الذي ينتهي إليه تصديق الإنسان في الدين أو غيره لا يصح التعبير عنه بالإتيان ونحوه كالمجيء ; لأنه يكون في نفسه وعقله ، وإنما يعبر به عما يرد على الإنسان من الخارج بذاته أو بأسبابه كالموت والعلم الخبري ، أو المنتزع من المعلوم الخارجي ، دون نتيجة القياس العقلي . فقوله تعالى :
حتى يأتيك اليقين كقوله :
ويأتيه الموت من كل مكان ( 14 : 17 ) وقوله :
من قبل أن يأتي أحدكم الموت ( 63 : 10 ) وقوله :
حتى إذا جاء أحدكم الموت ( 6 : 61 ) .
ونكتفي بهذا القدر من الاستطراد للدفاع عن القرآن في تفسيره ، فهو أفضل ما يدافع به عنه ، بل هو من مقاصد التفسير لا من الاستطراد الأجنبي عنه . وما ضعف اهتداء الناس بالقرآن إلا بخلو تفسيره من تطبيق عقائده وأحكامه على أحوال الناس ، ودفع الشبهات التي تصدهم عنه .