صفحة جزء
أولئك كالأنعام بل هم أضل أي: أولئك الموصوفون بما ذكر من الصفات السلبية كالأنعام من إبل وبقر وغنم ، في كونهم لا حظ لهم من قولهم ومشاعرهم إلا استعمالها فيما يتعلق بمعيشتهم في هذه الحياة الدنيا ، بل هم أضل سبيلا من الأنعام ; لأن هذه لا تجني على أنفسها بتجاوز سنن الفطرة ، وحدود الحاجة الطبيعية في أكلها وشربها ونزواتها بل تقف فيه عند قدر الحاجة التي تحفظ بها الحياة الشخصية والنوعية ، وأما عبيد الشهوات من الناس فهم يسرفون في كل ذلك إسرافا يتولد منه أمراض كثيرة يقل فيهم من يسلم منها كلها ، ومن الناس من يجاهد هذه الشهوات جهادا يفرط فيه بحقوق البدن فلا يعطيه الغذاء الكافي [ ص: 359 ] ويقصر في حقوق الزوجية ، أو يقطع على نفسه طريقها بالرهبانية ، فيجني على شخصه وعلى نوعه بالتفريط كما يجني عليهما عبيد اللذات بالإفراط ، دع الجناية على الأخلاق والآداب وعلى الأمم والشعوب ، وهداية الإسلام تحظر هذا وذاك ، وتوجب الأكل من الطيبات والزواج بشرطه ، وتحرم الإسراف في كل شيء ، فلو اهتدى الناس بالقرآن في فقه أسرار الخلق ومنافعه لجمعوا بها بين ارتقائهم في معاشهم واستعدادهم لمعادهم ، واتقوا هذا الإسراف في الشهوات والتنازع عليها الذي أفسد مدنية الإفرنج بما يشكو منه جميع حكمائهم ، ويجزمون بأنه لا بد أن يقضي عليهم .

أولئك هم الغافلون أي أولئك الموصوفون بكل ما ذكرهم الغافلون التامو الغفلة عما فيه صلاحهم وسعادتهم في الحياتين الدنيا والآخرة جميعا ، أو خيرهما وأكملهما وأدومهما وهي الثانية ، فهم طبقات على درجات في الغفلة ، الغافلون عن أنفسهم ، الغافلون عن استعمال عقولهم ومشاعرهم في أفضل ما خلقت لأجله من معرفة الله تعالى ، الغافلون عن آيات الله في الأنفس والآفاق التي تهدي إلى معرفة العبد نفسه وربه ، الغافلون عن ضروريات حياتهم الشخصية . وحياتهم القومية ، وحياتهم الملية ، الذين يعدون كالأنعام من وجه آخر غير الذي تقدم من مجافاة سنن الفطرة ، وهو حقارتهم ومهانتهم الشخصية والقومية بين الأمم والدول وتسخير غيرهم لهم كما يسخر الأنعام في سبيل معيشته .

فالقسم الأول من الغافلين : هم الذين قال الله تعالى فيهم في أوائل سورة يونس ، بعد التذكير بخلق السماوات والأرض ، واستوائه على عرشه ، وتدبيره أمر العالم وكونه يبدئ الخلق ثم يعيده - والإعادة في العادة أهون من البدء - والتذكير بآياته في جعل الشمس ضياء والقمر نورا وتقديره منازل ; ليعلم منها عدد السنين والحساب ، وآياته في اختلاف الليل والنهار ، وخلق السماوات والأرض - قال بعد ذلك - إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون ( 10 : 7 ، 8 ) فهذا نص في أن النار مأوى الغافلين عن هذه الآيات ، أي عن دلالتها على وجود خالقها ومدبر النظام فيها ، وكون إعادة خلق البشر وغيرهم في طور آخر لا يتعاصى على قدرته ، وهو من مقتضى علمه وحكمته ، وعن كون معرفته تعالى أعلى أنواع المعرفة ، وكون التنعم الروحاني بلقائه عز وجل في دار الكرامة أسمى أنواع النعيم ، وإن كان هؤلاء الغافلون عما ذكر - من أكبر العلماء بسنن الله تعالى وحكمه في خلق العالم العلوي والعالم السفلي ، بل حجة الله على هؤلاء العلماء أبلغ وأظهر ; لأنهم لو فطنوا لدلالتها على ما ذكر ، وفقهوه كما يجب لكانوا أسعد في هذه الحياة الدنيا ، وأبعد عن شرورها ومفاسدها مما هم عليه الآن ، ولاستعدوا بذلك لسعادة الآخرة أكمل استعداد .

[ ص: 360 ] كذلك يصدق عليهم قوله تعالى في أول سورة الروم : يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ( 30 : 7 ) فانظر إلى بلاغة القرآن في إعادة ضمير ( هم ) وهو للتأكيد الذي اقتضاه وصفهم بالعلم الذي من شأن صاحبه عدم الغفلة .

تلك الصفات هي صفات من خلقوا لسكنى الجحيم ، وما يقابلها فهو صفات أهل دار النعيم ، فأهل النار بنص كتاب الله تعالى هم الأغنياء الجاهلون الغافلون الذين لا يستعملون عقولهم في فقه حقائق الأمور ، ولا يستعملون أسماعهم وأبصارهم في استنباط المعارف ، واستفادة العلوم ، ومعرفة آيات الله الكونية ، وفقه آياته التنزيلية ، وهما سبب كمال الإيمان والباعث النفسي على كمال الإسلام والإحسان ، ولن ترى في كتب التفسير الكثيرة من نبه قراء كتاب الله تعالى إلى هذه المعاني الهادية إلى سبيله وصراطه المستقيم ، على أن أكثر المسلمين قد اتخذوا كتاب الله مهجورا ، فإذا سألت أشهرهم بعلم التفسير عن معنى هذه الآية قال لك : إن الله تعالى خلق للنار خلقا هم على الكفر والمعاصي مجبورون ، لهم قلوب ليس من شأنها أن يفهموا بها شيئا مما من شأنه أن يفهم ، فيدخل فيه ما يليق بالمقام من الحق ودلائله دخولا أوليا - ، ولهم أعين لا يبصرون بها شيئا من المبصرات فيندرج فيه الشواهد التكوينية الدالة على الحق اندراجا أوليا - ولهم آذان لا يسمعون بها شيئا من المسموعات ، فيتناول الآيات التنزيلية على طرز ما سلف " انتهى ملخصا من روح المعاني ، وما زاد عليه فيه فكلام في الإعراب ونكت التعبير ، وتحقيق لمعنى الجبر عند بعض المتكلمين ، وهو زبدة ما في كتب التفسير ، وأهل النار عندهم من يسمونهم كافرين ، وأهل الجنة من يسمونهم مسلمين ، إن كانوا يجهلون حقائق هذه الأمور ، ويصرون على الفجور ، اتكالا على شفاعة أهل القبور ، الذين يدعونهم مع الله أو من دون الله لمهمات الأمور ، ويذبحون لهم النسائك ، وينذرون لهم النذور ، وهي عبادات لغير الله يخرجون بها من حظيرة الإيمان ، والاحتجاج بالآية على الجبر غفلة وجهل بل هي كسائر الآيات الدالة على نوط الجزاء بالعمل ومعناها : أن هؤلاء المكلفين من الجن والإنس قد تركوا استعمال عقولهم ومشاعرهم الباطنة والظاهرة في علم الهدى ، الذي يترتب عليه الأعمال المزكية للنفس ، فكانوا بذلك أهل جهنم ، وليس فيها أنه تعالى ذرأهم لجهنم لذواتهم ; فإن ذوات الجنسين كلها متشابهة ، ولم يقل إنه خلقهم عاجزين عن استعمال تلك القوى في أسباب الهدى بل قال: إنهم هم لم يستعملوها في ذلك وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير ( 67 : 10 ، 11 ) ولكن الجدل في المذاهب هو الذي أوهمهم ، ونحمد الله تعالى أن هدانا إلى تفسير الآية بالشواهد الكثيرة من القرآن ، وسنن الله تعالى في الإنسان والأكوان ، وهو ما لم نطلع على مثله ولا ما يحوم حوله الإنسان ، والتحدث بنعمة الله ، مما أمر به الله فالحمد له ثم الحمد لله .

التالي السابق


الخدمات العلمية