ثم إنه دعاهم بعد هذا إلى النظر والاستدلال العقلي فقال :
أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم الملكوت : الملك العظيم كما تدل عليه صيغة ( فعلوت ) والمراد بملكوت السماوات والأرض مجموع العالم ; لأن الاستدلال به على قدرة الله تعالى وصفاته ووحدانيته أظهر في العالم في جملته لا يمكن أن يكون قديما أزليا ، ولا نزاع بين علماء الكون في إمكانه ، ولا في حدوث كل شيء منه ، وإنما يختلفون في مصدره ومم وجد ، وهو لا يمكن أن يكون من عدم محض ; لأن العدم المحض لا حقيقة له في الخارج بل هو أمر فرضي ، فلا يعقل أن يصدر عنه وجود ، ولا يمكن أن يكون بعضه قد أوجد البعض الآخر ، وهذا بديهي; ولذلك لم يقل به أحد ، فلا بد إذا من أن يكون صادرا عن وجود آخر غيره ، وهو الله واجب الوجود . ثم إن هذا النظام العام في الملكوت الأعظم يدل على أن مصدره واحد ، وتدبيره راجع إلى علم عليم واحد ، وحكمة حكيم واحد ، سبحانه وتعالى
أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون ( 52 : 35 ، 36 ) .
ومعنى الآية : أكذبوا الرسول المشهور بالأمانة والصدق ، وقالوا : إنه لمجنون . وهو المعروف عندهم بالرواية والعقل ، حتى جعلوا تحكيمه في تنازعهم على رفع الحجر الأسود هو الحكم الفصل - ولم ينظروا نظر تأمل واستدلال في مجموع ملكوت السماوات والأرض على عظمته ، والنظام العام الذي قام بجملته ، وما خلق الله من شيء في كل منهما ، وإن دق وصغر ، وخفي واستتر ، ففي كل شيء من خلقه له آية تدل على علمه وقدرته ، ومشيئته وحكمته ، وفضله ورحمته ، وكونه لم يخلق شيئا عبثا ، ولا يترك الناس سدى ، تدل على
[ ص: 383 ] ذلك بوجود ذلك الشيء بعد أن لم يكن ، وبترجيح كل وصف من أوصافه على ما يقابله ، وبما فيها من فائدة ومنفعة ، فكيف بالملكوت الأعظم في جملته ، والنظام البديع الذي قام هو به ؟ أكذبوا وقالوا ما قالوا ، ولم ينظروا في العالم الأكبر ، ولا في ذرات العالم الأصغر ، نظر تأمل واعتبار ، وتفكر واستدلال ، ولا فيما عسى أن يكون عليه الشأن من اقتراب أجلهم ، وقدومهم على الله تعالى بسوء عملهم ، فأجل الأفراد مهما يطل فهو قصير ، ومهما يبعد أملهم فيه فهو في الحق الواقع قريب ، ولو نظروا في الملكوت أو في شيء ما منه ، واعتبروا بخلق الله تعالى إياه ، لاهتدوا بدلائله إلى تصديق الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله ، ولو نظروا في توقع قرب أجلهم لاحتاطوا لأنفسهم ، ورأوا أن من العقل والروية أن يقبلوا إنذاره - صلى الله عليه وسلم - لهم ; لأن خيريته لهم في الدنيا ظاهرة لم يكونوا ينكرونها ، وأما خيريته في الآخرة فهي أعظم إذا صدق ما يقرره من أمر البعث والجزاء ، وهو صدق وحق ، وإن صح إنكارهم له - وما هو بصحيح - فلا ضرر عليهم من الاحتياط له ، كما قال الشاعر :
قال المنجم والطبيب كلاهما لا تبعث الأموات ، قلت : إليكما إن صح قولكما فلست بخاسر
أو صح قولي فالخسار عليكما
فالمجنون إذا من يترك ما فيه سعادة الدنيا باعترافه ، وسعادة الآخرة ولو على احتمال لا ضرر في تخلفه ، لا من يدعو إلى السعادتين ، أو إلى شيئين يجزمون بأن أحدهما نافع قطعا والآخر إما نافع وإما غير ضار . هذا ما دعاهم إليه صاحبهم بكتاب ربهم مؤيدا بالبراهين العقلية والعلمية ، لعلهم يعقلون ويعلمون .
فبأي حديث بعده يؤمنون وردت هذه الآية بنصها في آخر سورة المرسلات ، الآية رقم " 50 " التي أقيمت فيها الدلائل على البعث والجزاء ، وتهديد المكذبين بالويل والهلاك بعد تقرير كل نوع منها . وورد في الآية السادسة من سورة الجاثية ( 45 ) بعد التذكير بآيات الله للمؤمنين ، وآياته لقوم يوقنون ، وآياته لقوم يعقلون ، قوله :
تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون والحديث في الجميع كلام الله الذي هو القرآن ، يدل عليه هنا قوله تعالى في رسوله :
إن هو إلا نذير مبين ( 7 : 184 ) وفي آية المرسلات القرينة في تهديد المكذبين له ، وفي آية الجاثية افتتاح السورة بذكر الكتاب ، فيكون معناها : فبأي حديث بعد كتاب الله المذكور في الآية الأولى وآياته المشار إليها بعدها يؤمنون ؟ والمراد أن
محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نذير مبين عن الله تعالى ، وإنما أنذر الناس بهذا الحديث أي القرآن . كما أمره أن يقول :
وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ( 6 : 19 )
[ ص: 384 ] وهو أكمل كتب الله بيانا ، وأقواها برهانا ، وأقهرها سلطانا ، فمن لم يؤمن به فلا مطمع في إيمانه بغيره ، ومن لم يرو ظمأه الماء النقاخ المبرد فأي شيء يرويه ؟ ومن لم يبصر في نور النهار ففي أي نور يبصر ؟ ثم قال تعالى :
من يضلل الله فلا هادي له هذا استئناف بياني مقرر لجملة هذا السياق ، ومعنى الجملة المراد أن الله تعالى قد جعل هذا القرآن أعظم أسباب الهداية ، وإنما جعله هدى للمتقين لا للجاحدين المعاندين ، وجعل الرسول المبلغ له أكمل الرسل ، وأقواهم برهانا في حاله وعقله وأخلاقه وكونه أميا - فمن فقد الاستعداد للإيمان والهدى بهذا الكتاب ، على ظهور آياته وقوة بيناته ، وبهذا الرسول المتحدى به ، فهو الذي أضله الله ، أي قضت سنته في نظام خلق الإنسان ، وارتباط المسببات في أعماله بالأسباب ، بأن يكون ضالا راسخا في الضلال ، وإذا كان ضلاله بمقتضى سنن الله ، فمن يهديه من بعد الله ؟ ولا قدرة لأحد من خلقه على تغيير سننه ولا تبديلها .
ويذرهم في طغيانهم يعمهون أي: وهو تعالى يترك هؤلاء الضالين في طغيانهم ، كالشيء اللقا الذي لا يبالى به ، حالة كونهم يعمهون فيه أي يترددون تردد الحيرة والغمة لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ، وفي هذا بيان لسبب ضلالهم من كسبهم ، وهو الطغيان ، أي تجاوز الحد في الباطل والشر من الكفر والظلم والفجور الذي ينتهي بالعمه ، وهو التردد في الحيرة والارتكاس في الغمة ، وقد روعي في إفراد الضمير أولا لفظ من " يضلل " وفي جمعه آخرا معناها وهو الجمع ، ونظائره كثيرة .
.
وقد علم مما قررناه أن
إسناد الإضلال إلى الله تعالى ليس معناه أنه أجبرهم على الضلال إجبارا ، وأعجزهم بقدرته عن الهدى فكان ضلالهم اضطرارا لا اختيارا ، بل معناه أنهم مارسوا الكفر والضلال ، وأسرفوا فيهما حتى وصلوا إلى حد العمه في الطغيان ، ففقدوا بهذه الأعمال الاختيارية ما يضادها من الهدى والإيمان .
وقرأ
حمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي " يذرهم " بإسكان الراء ، فقيل : هو للتخفيف . وقيل : للإعراب بالعطف على جواب الشرط ، وقرأه بعض القراء بـ " النون " على الالتفات .