(
وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ) أي : وإذا قيل لمتبعي خطوات الشيطان الذين يقولون على الله بغير علم ولا برهان : اتبعوا ما أنزل إليكم ولا تتبعوا
[ ص: 74 ] من دونه أولياء ، قالوا : لا ، نحن لا نعرف ما أنزل الله ، بل نتبع ما ألفينا ; أي : وجدنا عليه آباءنا ، وهو ما تقلدناه من سادتنا وكبرائنا ، وشيوخ علمائنا . لم يخاطب هؤلاء ببطلان ما هم عليه وتشنيعه خطابا لهم بل حكى عنهم حكاية بين فساد مذهبهم فيها ، كأنه أنزلهم منزلة من لا يفهم الخطاب ولا يعقل الحجج والدلائل ، كما بين ذلك بالتمثيل الآتي . ولو كان للمقلدين قلوب يفقهون بها لكانت هذه الحكاية كافية بأسلوبها لتنفيرهم من التقليد ، فإنهم في كل ملة وجيل يرغبون عن اتباع ما أنزل الله استئناسا بما ألفوه مما ألفوا آباءهم عليه ، وحسبك بهذا شناعة ; إذ العاقل لا يؤثر على ما أنزل الله تقليد أحد من الناس وإن كبر عقله وحسن سيره ; إذ ما من عاقل إلا وهو عرضة للخطأ في فكره ، وما من مهتد إلا ويحتمل أن يضل في بعض سيره ، فلا ثقة في الدين إلا بما أنزل الله ، ولا معصوم إلا من عصم الله ، فكيف يرغب العاقل عما أنزل الله إلى اتباع الآباء مع دعواه الإيمان بالتنزيل ، على أنه لو لم يكن مؤمنا بالوحي لوجب أن ينفره عن التقليد قوله تعالى : (
أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ) ؟ ! فإن هذا حجة عقلية لا تنقض .
أقول : الهمزة للإنكار والتعجب ، وهي داخلة على فعل حذف للعلم به من القرينة ، " ولو " للغاية لا تحتاج إلى جواب وجزاء . والتقدير أيتبعون ما ألفوا عليه آباءهم في كل حال وفي كل شيء ، ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من عقائد الدين إذ لا يسلكون طريق العقل بالاستدلال على أن ما هم عليه من العقائد والعبادات حق ، ولا يهتدون في أحكامه وأعماله بوحي من الله جاءهم به رسول من عند الله ؟ أي حتى في تجردهم من دليلي العقل والنقل ، هذا ما أفهمه . وقال
البيضاوي : أي لو كان آباؤهم جهلة لا يفكرون في أمر الدين ولا يهتدون إلى الحق لاتبعوهم . وهو دليل على المنع من
التقليد لمن قدر على النظر أو الاجتهاد ، أما اتباع الغير في الدين إذا علم بدليل ما أنه محق كالأنبياء والمجتهدين في الأحكام فهو في الحقيقة ليس بتقليد بل اتباع لما أنزل الله ا هـ . ونقله عنه
الألوسي بغير عزو ووصله بآية (
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) ( 16 : 43 ) وفيه : أنه لم يفرق في التقليد بين القطعي المعلوم من الدين بالضرورة وهو لا يجوز التقليد فيه ألبتة بل لا محل له ، وبين الأمور الاجتهادية كأحكام القضاء وسياسة الأمة ، وهذا هو الذي يشترط فيه القدرة على النظر والاستدلال ، ولم يفرق بين اتباع النبي المعصوم - فيما يبلغه عن الله تعالى لمن قامت عنده الحجة على نبوته فهو لا يكون إلا محقا - وبين المجتهد الذي لا يمكن العلم بأنه محق إلا بالوقوف على دليله وفهمه ، وقوله تعالى : (
فاسألوا أهل الذكر ) في طلب السؤال عن أمر قطعي معلوم بالضرورة وهو كون الرسل رجالا يوحى إليهم لا عن رأي اجتهادي .
وقال
الجلال وغيره : لا يعقلون شيئا من أمر الدين . وتعقبه الأستاذ الإمام بقوله :
[ ص: 75 ] عقل الشيء : معرفته بدلائله وفهمه بأسبابه ونتائجه ، وأقرب الناس إلى معرفة الحق الباحثون الذين ينظرون في الدلائل بقصد صحيح ولو في غير الحق ; لأن الباحث المستدل إذا أخطأ يوما في طريق الاستدلال أو في موضوع البحث فقد يصيب في يوم آخر ، لأن عقله يتعود الفكر الصحيح ، واستفادة المطالب من الدلائل ، وأبعد الناس عن معرفة الحق المقلدون الذين لا يبحثون ولا يستدلون ، لأنهم قطعوا على أنفسهم طريق العلم وسجلوا على عقولهم الحرمان من الفهم ، فهم لا يوصفون بإصابة ; لأن المصيب هو من يعرف أن هذا هو الحق ، والمقلد إنما يعرف أن فلانا يقول إن هذا هو الحق فهو عارف بالقول فقط ; ولذلك ضرب لهم المثل في الآية الآتية بعدما سجل عليهم الضلالة بعدم استعمال عقولهم .
( فإن قيل ) : إن الآية إنما تمنع اتباع غير من يعقل الحق ويهتدي إلى حسن العمل والصواب في الحكم ، ولكنها لا تمنع من تقليد العاقل المهتدي . ( نقول ) : ومن أين يعرف المقلد أن متبوعه يعقل ويهتدي إذا هو لم يقف على دليله ؟ فإن هو اتبعه في طريقة الاستدلال حتى وصل إلى ما وصل على بصيرة فإن الآية لا تنعي عليه هذا ، إذ هو استفادة للعلم محمودة لا تقليد في المعلوم أو المظنون لغيره .
قال الأستاذ الإمام : رأيت لبعض السلف أنه قال : لو أن شخصا رأى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وسمع قوله واقتدى به من غير نظر في نبوته يؤدي إلى الوصول إلى اعتقاد صحتها بالدليل لعد مقلدا ، ولم يكن على بصيرة كما أمر الله المؤمن أن يكون ( وأقول ) إن هذا مأخوذ من قوله تعالى : (
قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ) ( 12 : 108 ) وقد فسروا البصيرة بالحجة الواضحة ، ولا يشترط في صحة الإيمان بنبوته - صلى الله عليه وسلم - النظر الاستدلالي المعروف عند المتكلمين ; بل يكفي فيها اطمئنان النفس لصدقه بمعرفة حاله وحسن ما دعا إليه ، ولكن مرتبة الدعوة إلى الله وإثبات دينه بالحجة لا يرتقي إليها كل مؤمن به - صلى الله عليه وسلم - .
هذا وإن في قوله تعالى : (
لا يعقلون شيئا ) بحثا ، فقد يشكل هذا العموم فيه على بعض الأفهام ، وقد بين له الأستاذ الإمام ثلاثة أوجه .
( أحدها ) : أن معناه لا يستعملون عقولهم في شيء مما يجب العلم به ، بل يكتفون فيه كله بالتسليم من غير نظر ولا بحث وهو ما مر .
( وثانيها ) : أنه جار على طريقة البلغاء في المبالغة بجعل الغالب أمرا كليا عاما . يقولون في الضال في عامة شئونه : إنه لا يعقل شيئا ولا يهتدي إلى الصواب . ويقولون في البليد إنه لا يفهم شيئا ، وهذا لا ينافي أن يعقل الأول بعض الأشياء ويفهم الثاني بعض المسائل .
( وثالثها ) : أنه ليس الغرض من العبارة نفي العقل عن آبائهم بالفعل ، وإنما المراد منها : أيتبعون آباءهم لذواتهم كيفما كان حالهم حتى لو كانوا لا يعقلون ولا يهتدون ؟ كأنه يقول
[ ص: 76 ] إن اتباع الشخص لذاته منكر لا ينبغي ، وهذا قول مألوف ، فمن يقول : أنا أتبع فلانا في كل ما يعمل ، يقال له : أتتبعه ولو كان لا يعمل خيرا ؟ أي : أن من شأن من يتبع آخر لذاته لا لكونه محسنا ومصيبا أن يتبعه في كل شيء وإن كان كل عمله باطلا ; لأنه لا يفرق بين الحق والباطل والخير والشر إلا من ينظر ويميز ، وهذا لا يتبع أحدا لذاته كيفما كان حاله .