أما قوله تعالى :
وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام أي: وماذا وثبت لهم مما يمنع تعذيبهم بما دون عذاب الاستئصال عند زوال المانعين منه بعد ، والحال أنهم يمنعون المسلمين من دخول
المسجد الحرام ولو للنسك ، قيل : المراد به صدهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام
الحديبية سنة ست ، والآية نزلت عقب غزوة
بدر سنة اثنتين . والمنع كان واقعا منذ الهجرة ، ما كان يقدر مسلم أن يدخل
المسجد الحرام فإن دخل
مكة عذبوه إذا لم يكن فيها من يجيره ، والمراد بالعذاب هنا عذاب
بدر إذ قتل صناديدهم ورءوس الكفر فيهم ، ومنهم
أبو جهل ، وأسر سراتهم ، لا فتح
مكة كما قال الحافظ - بل لم تكن الهجرة نفسها إلا بصد المؤمنين عنه ، فقد كانوا يؤذون من طاف أو صلى فيه منهم إذا لم يكن له منهم أو من غيرهم من الأقوياء من يمنعه ويحميه ، وقد وضعوا على ظهر الرسول صلى الله عليه وسلم فرث الجزور وهو ساجد فلم يتجرأ أحد على رميه عنه إلا بنته
فاطمة - عليها السلام - ومنعوا
أبا بكر من الصلاة وقراءة القرآن فيه فبنى لنفسه مسجدا كان يصلي فيه ، ويجهر بالقرآن ، فصدوه عن الصلاة فيه أيضا; لأن النساء والأولاد كانوا يجتمعون لسماع قراءته المؤثرة فخافوا عليهم أن يهتدوا إلى الإسلام . وقد تقدم خبره في ذلك ، وإجارة
ابن الدغنة له ثم اضطراره إلى رد جواره ، وهو من حديث الهجرة في
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري .
[ ص: 547 ] وما كانوا أولياءه أي مستحقين الولاية عليه لشركهم ومفاسدهم فيه ، كطوافهم فيه عراة الأجسام رجالا ونساء ، ولما أجاب الله دعاء أبيهم
إبراهيم بأن يجعل للناس أئمة من ذريته كما جعله إماما لهم ، أجابه الله تعالى بأن عهده بالإمامة لا ينال الظالمين ، وأي ظلم أعظم شناعة وفسادا من الشرك ؟
إن الشرك لظلم عظيم ( 31 : 13 ) وكانوا يقولون نحن ولاة البيت الحرام فنصد من نشاء ، وندخل من نشاء فقال تعالى :
إن أولياؤه إلا المتقون للشرك وسائر الفساد والظلم وهم المسلمون الصادقون ، وقد وجدوا . وهذا غاية التأكيد ، فإنه بعد أن نفى ولاية المشركين عن بيت الله تعالى نفى كل ولاية على الإطلاق ، واستثنى منها ولاية المتقين من المسلمين ، وهم عدو لهم وخيارهم لا من لا فضل لهم في أنفسهم ، وإنما يدعون حق الولاية بأنسابهم . وقيل : إن الضمير في الموضعين لله تعالى ، أي ولم لا يعذب الله هؤلاء المشركين بعد انتفاء سببي منع العذاب ، والحال أنهم ليسوا أولياءه وأنصار دينه الذين لا يعذبهم ؟ وكأن سائلا يسأل : من أولياؤه تعالى إذا ؟ فأجيب بصيغة الحصر بالإثبات بعد النفي : ما أولياؤه إلا المتقون ، أي الذين صارت التقوى العامة صفة راسخة فيهم ، وتقدم ما يدل عليه هذا الإطلاق فيها من التفصيل في تفسير آية
إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا وما هي ببعيد . والقول الأول أقرب في هذا السياق ، والثاني أخص ويؤيده في حد ذاته قوله تعالى :
ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون ( 10 : 62 ، 63 ) ويجوز الجمع بينهما
ولكن أكثرهم لا يعلمون أنه لا حق لهم في الولاية على هذا البيت ولا سيما بعد ظهور الإسلام ، ووجود أولياء الله الموحدين الصالحين ، وكانوا يدعون هذا الحق بنسبهم الإبراهيمي ، وقد أبطله الظلم ، وبقوتهم في قومهم ، وإن كانت إلى ضعف أو لا يعلمون أنهم ليسوا أولياء الله - عز وجل - ، ولا أن أولياءه ليسوا إلا المتقين ، فهم الآمنون من عذابه بمقتضى عدله في خلقه ، والحقيقون بالولاية على بيته ، على ما أعد لهم من الثواب والنعيم بفضله ، كما صرحت به آياته في كتابه ، وقد أسند هذا الجهل إلى أكثرهم إذ كان فيهم من لا يجهل سوء حالهم في جاهليتهم وضلالهم في شركهم ، وكونه لا يرضي الله تعالى ، فإن امتنع رؤساؤهم من الإسلام كبرا وعنادا ، فقد كان فيهم من يكتم إيمانه خوفا من الفتنة ، ويتربص الفرصة لإظهاره بالاستعداد للهجرة ، ومنهم المستعدون له بسلامة الفطرة ، وللتفاوت
[ ص: 548 ] في الاستعداد كان يظهر المرة بعد المرة . والناس يطلقون الحكم في مثل الحال التي كانوا عليها على الجميع ، ويقولون : إن القليل لا حكم له إن وجد فكيف ونحن لا نعلم بوجوده ؟ ولكن الله تعالى لا يخفى عليه شيء ، ولا يقول إلا الحق ، ومثل هذا الحكم على أكثر الأمم والشعوب أو استثناء القليل منهم بعد إطلاق الحكم عليهم ، هو من دقائق القرآن في تحرير الحق ، وهو مكرر في مواضع من عدة سور ، وسبق تنبيهنا لهذا في تفسير ما تقدم منها .
هذا وإن جماهير المسلمين في أكثر بلادهم صاروا في هذا العصر أجهل من مشركي
قريش في ذلك العصر بمعنى ولاية الله وأوليائه - سواء في ذلك ولاية الحكم والسلطان ، وهي الإمامة العامة ، وولاية التقوى والصلاح ، وهي الإمامة الشخصية الخاصة ، وجهلهم بهذه أعم وأعمق ، فالولاية عندهم تشمل المجانين والمجاذيب الذين ترتع الحشرات في أجسادهم النجسة ، وثيابهم القذرة ، ويسيل اللعاب من أشداقهم الشرهة ، وتشمل أصحاب الدجل والخرافات ، والدعاوى الباطلة للكرامات ، والشرك بالله بدعاء الأموات ، ومن أدلتهم عليها ما يتخيلون من رؤى الأنبياء والأقطاب في المنام ، وما يزعمون من تلقيهم عنهم ما تنبذه شريعة المصطفى - عليه السلام - ، حتى صار ما هم عليه دين شرك منافيا لدين الإسلام ، فعليك بمطالعة كتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ، لشيخ الإسلام
ابن تيمية ، ومن أولى منه بمثل هذا الفرقان ؟ .
ثم عطف على الحكم عليهم ما هو حجة على صحته ، وهو بيان حالهم في أفضل ما بني البيت لأجله وهو الصلاة ، إذ كان سوء حالهم في الطواف عراة معروفا لا يجهله أحد ، أو في العبادة الجامعة للطواف والصلاة فقال :
وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية من المعلوم أن البيت إذا أطلق معرفا انصرف عندهم إلى بيت الله المعروف
بالكعبة والبيت الحرام ، على القاعدة اللغوية في انصراف مثله إلى الأكمل في جنسه كالنجم للثريا ، وهي أعظم النجوم هداية . روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : كانت
قريش تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفق . وقال : المكاء الصفير ، والتصدية التصفيق ، وقال : كان أحدهم يضع يده على الأخرى ويصفر . وروي عنه أن الرجال والنساء منهم كانوا يطوفون عراة مشبكين بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون ، وروى
الطستي فيما روى من أسئلة
نافع بن الأزرق له أنه قال له : أخبرني عن قوله - عز وجل - :
إلا مكاء وتصدية قال : المكاء: صوت القنبرة ، والتصدية صوت العصافير وهو التصفيق ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة وهو
بمكة كان يصلي بين الحجر ( الأسود ) والركن اليماني - يعني أنه يتوجه إلى الشمال; ليجمع بين
الكعبة وبيت المقدس في الاستقبال - فيجيء رجلان من
بني سهم يقوم أحدهما عن يمينه ، والآخر عن شماله ، ويصيح أحدهما كما يصيح
[ ص: 549 ] المكاء ، والآخر يصفق بيديه تصدية العصافير; ليفسدا عليه صلاته . قال (
نافع ) : وهل تعرف العرب ذلك ؟ : قال : نعم أما سمعت
nindex.php?page=showalam&ids=144حسان بن ثابت يقول :
تقوم إلى الصلاة إذا دعينا وهمتك التصدي والمكاء
وفي بعض كتب اللغة أن المكاء طائر أبيض ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير : كانت
قريش يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف يستهزئون ويصفرون فنزلت :
وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية وقال
الراغب : مكا الطير يمكو مكاء : صفر . وذكر أن المكاء في الآية جار مجرى مكاء الطير في قلة الغناء . قال : والمكاء ( بالضم والتشديد ) طائر ، ومكت استه صوتت اهـ . ويحتمل أن هذه الفعلة القبيحة كانت تقع منهم عمدا أيضا ، فذكر اللفظ المشترك; ليدل عليها ، ولم يذكر اللفظ الذي وضع لها وحدها نزاهة ، وقال في التصدية : كل صوت يجري مجرى الصدى في أن لا غناء فيه اهـ . وجملة القول : أن صلاتهم وطوافهم كان من قبيل اللهو واللعب سواء عارضوا بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في طوافه وخشوع صلاته وحسن تلاوته أم لا .
قال تعالى :
فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون فسر
الضحاك العذاب هنا بما كان من قتل المؤمنين لبعض كبرائهم وأسرهم لآخرين منهم يوم
بدر أي وانهزام الباقين مكسورين مدحورين . وفيه إشارة إلى قولهم :
أو ائتنا بعذاب أليم كأنه يقول : فذوقوا العذاب الذي طلبتموه ، وما كان لكم أن تستعجلوه .