والأصل في المصارف أن أمهات المقاصد أمور ( منها ) إبقاء ناس لا يقدرون على شيء لزمانة أو لاحتياج مالهم أو بعده منهم . ( ومنها ) حفظ
المدينة عن شر الكفار بسد الثغور ونفقات المقاتلة والسلاح والكراع . ( ومنها ) تدبير
المدينة وسياستها من الحراسة والقضاء ، وإقامة الحدود والحسبة . ( ومنها ) حفظ الملة بنصب الخطباء والأئمة والوعاظ والمدرسين .
[ ص: 13 ] ( ومنها ) منافع مشتركة ككري الأنهار وبناء القناطر ونحو ذلك ، وأن البلاد على قسمين ، قسم تجرد لأهل الإسلام
كالحجاز ، أو غلب عليه المسلمون ، وقسم أكثر أهله الكفار فغلب عليهم المسلمون بعنوة أو صلح . والقسم الثاني يحتاج إلى شيء كثير من جمع الرجال ، وإعداد آلات القتال ، ونصب القضاة والحرس والعمال ، والأول لا يحتاج إلى هذه الأشياء كاملة وافرة . وأراد الشرع أن يوزع بيت المال المجتمع في كل بلاد على ما يلائمها ، فجعل مصرف الزكاة والعشر ما يكون فيه كفاية المحتاجين أكثر من غيرها ، ومصرف الغنيمة والفيء ما يكون فيه إعداد المقاتلة ، وحفظ الملة ، وتدبير المدينة أكثر ، ولذلك جعل سهم اليتامى والمساكين والفقراء من الغنيمة والفيء أقل من سهمهم من الصدقات ، وسهم الغزاة منهما أكثر من سهمهم منها .
" ثم الغنيمة إنما تحصل بمعاناة وإيجاف خيل وركاب ، فلا تطيب قلوبهم إلا بأن يعطوا منها ، والنواميس الكلية المضروبة على كافة الناس لا بد فيها من النظر إلى حال عامة الناس ، ومن ضم الرغبة الطبيعية إلى الرغبة العقلية ، ولا يرغبون إلا بأن يكون هناك ما يجدونه بالقتال ، فلذلك كان أربعة أخماسها للغانمين . والفيء إنما يحصل بالرعب دون مباشرة القتال ، فلا يجب أن يصرف على ناس مخصوصين ، فكان حقه أن يقدم فيه الأهم فالأهم . والأصل في الخمس أنه كان المرباع عادة مستمرة في الجاهلية يأخذه رئيس القوم وعصبته ، فتمكن ذلك في علومهم ، وما كادوا يجدون في أنفسهم حرجا منه وفيه قال القائل :
وإن لنا المرباع من كل غارة تكون بنجد أو بأرض التهائم
فشرع الله تعالى الخمس لحوائج
المدينة والملة نحوا مما كان عندهم ، كما أنزل الآيات على الأنبياء عليهم السلام نحوا مما كان شائعا ذائعا فيهم . وكان المرباع لرئيس القوم وعصبته تنويها بشأنهم ، ولأنهم مشغولون بأمر العامة محتاجون إلى نفقات كثيرة ،
فجعل الله الخمس لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه عليه السلام مشغول بأمر الناس لا يتفرغ أن يكتسب لأهله فوجب أن تكون نفقته في مال المسلمين ، ولأن النصرة حصلت بدعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والرعب الذي أعطاه الله إياه فكان كحاضر الوقعة ، ولذوي القربى ؛ لأنهم أكثر الناس حمية للإسلام ، حيث اجتمع فيهم الحمية الدينية إلى الحمية النسبية فإنه لا فخر لهم إلا بعلو دين
محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولأن في ذلك تنويها بأهل بيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتلك مصلحة راجعة إلى الملة . وإذا كان العلماء والقراء يكون توقيرهم تنويها بالملة ، يجب أن يكون توقير ذوي القربى كذلك بالأولى ، وللمحتاجين وضبطهم بالمساكين والفقراء
[ ص: 14 ] واليتامى - وقد ثبت
أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعطى المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ، وعلى هذا فتخصيص هذه الخمسة بالذكر للاهتمام بشأنها والتوكيد ألا يتخذ الخمس والفيء أغنياؤهم دولة فيهملوا جانب المحتاجين ، ولسد باب الظن السيئ بالنسبة إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقرابته ، وإنما شرعت الأنفال والأرضاخ ؛ لأن الإنسان كثيرا ما لا يقدم على مهلكة إلا لشيء يطمع فيه ، وذلك ديدن وخلق للناس لا بد من رعايته ، وإنما جعل
للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم ؛ لأن غناء الفارس عن المسلمين أعظم ومؤنته أكثر ، وإن رأيت حال الجيوش لم تشك أن الفارس لا يطيب قلبه ، ولا تكفي مؤنته إذا جعلت جائزته دون ثلاثة أضعاف سهم الراجل ، لا يختلف فيه طوائف العرب والعجم على اختلاف أحوالهم وعاداتهم .
" قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920163لئن عشت إن شاء الله لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب وأوصى بإخراج المشركين منها " .
( أقول ) : عرف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الزمان دول وسجال ، فربما ضعف الإسلام ، وانتثر شمله ، فإن كان العدو في مثل هذا الوقت في بيضة الإسلام ومحتده أفضى ذلك إلى هتك حرمات الله وقطعها ، فأمر بإخراجهم من حوالي دار العلم ومحل بيت الله .
( وأيضا ) المخالطة مع الكفار تفسد على الناس دينهم ، وتغير نفوسهم ، ولما لم يكن بد من المخالطة في الأقطار أمر بتنقية الحرمين منهم . ( وأيضا ) انكشف ( له ) ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يكون في آخر الزمان فقال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920164إن الدين ليأرز إلى المدينة " الحديث ، ولا يتم ذلك إلا أن يكون هناك أحد من أهل سائر الأديان والله أعلم انتهى . من حجة الله البالغة .