ومن يتوكل على الله أي : يكل إليه أمره مؤمنا إيمان إذعان واطمئنان بأنه هو حسبه وكافيه وناصره ومعينه ، وأنه قادر لا يعجزه شيء ، عزيز لا يغلبه ، ولا يمتنع عليه شيء أراده
فإن الله عزيز حكيم أي : فهو تعالى بمقتضى عزته وحكمته عند إيمانهم به ، وتوكلهم عليه : يكفيهم ما أهمهم ، وينصرهم على أعدائهم ، وإن كثر عددهم ، وعظم استعدادهم ؛ لأنه عزيز غالب على أمره ، حكيم يضع كل أمر في موضعه على ما جرى عليه النظام والتقدير في سننه ، ومنه نصر الحق على الباطل ، بل كثيرا ما تدخل عنايته بالمتوكلين عليه في باب الآيات ، وخوارق العادات ( كما حصل في غزوة
بدر وآيات الله لا نهاية لها ) وإن أجمع المحققون على أن
التوكل لا يقتضي ترك الأسباب من العبد ، ولا الخروج عن السنن العامة في أفعال الرب ، كما سبق تحقيقه مفصلا من قبل .
[ ص: 29 ] وكم لله من لطف خفي يدق خفاه عن فهم الذكي
وقد اشتهر في عباد الملة أفراد في ترك الأسباب كلها توكلا على الله ، وثقة به ، واشتهر من تسخيره تعالى الأسباب لهم ، والعناية بهم ، ما يعسر على الذكي تأويله كله بالتخريج على المصادفات المعتادة :
nindex.php?page=showalam&ids=12358كإبراهيم بن أدهم الذي كان ملكا فخرج من ملكه ، وانقطع لعبادة ربه متوكلا عليه في رزقه ، وفي كل أموره .
وإبراهيم الخواص nindex.php?page=showalam&ids=16113وشقيق البلخي من المتقدمين ، وقد أدركنا في عصرنا عالما أفغانيا منهم اسمه
عبد الباقي خرج من بلاده بعد تحصيل العلوم العربية والشرعية إلى
الهند للتوسع في الفلسفة وسائر المعقولات ، وجد واجتهد فيها حتى رأى في منامه مرة رجلا ذا هيئة حسنة مؤثرة سأله : أتدري ماذا تعمل يا
عبد الباقي ؟ إنك كمن يأخذ خشبة يحرك بها الكنيف عامة نهاره ، فلما استيقظ حملته هذه الرؤيا على التفكر في هذه الفلسفة اليونانية والفائدة منها . وما لبث أن تركها ، وعزم على الانقطاع لعبادة الله ، وترك العالم كله لذلك ، فخرج من
الهند إلى
بلاد العرب فكان يحج في كل سنة ماشيا ، ويعود إلى
بلاد الشام في الغالب فيقيم عندنا في القلمون أياما ، وفي
طرابلس وحمص كذلك ، ثم يعود إلى
الحجاز ، وهكذا دواليك ، ولم يكن يحمل دراهم ، ولا زادا ، وقد يحمل كتابا بيده يقرأه ، فإذا فرغ منه وهبه ، وتلقى عنه بعض الأذكياء دروسا في التوحيد والأصول ، ومنه يعلم الفرق بينه وبين أولئك الدراويش الكسالى والسياحين الدجالين .
قال صديقنا العالم الذكي النقادة السيد
عبد الحميد الزهراوي : لولا أننا رأينا هذا الرجل بأعيننا واختبرناه في هذه السنين الطوال بأنفسنا ، لكنا نظن أن ما يروى من أخبار كبار الصالحين المتوكلين من المتقدمين
nindex.php?page=showalam&ids=12358كإبراهيم بن أدهم ،
والخواص والبلخي مبالغات وإغراقات من مترجميهم .
وقد حدثنا العلامة الفقيه الصوفي الأديب الشيخ
عبد الغني الرافعي أنه كان غلب عليه حال التوكل ، وحدثته نفسه بأنه صار مقدما له ، فامتحناه بسفر خرج فيه من بلده ، وليس في يده مال ، فسخر الله له من الأسباب الشريفة ما كان به سفره لائقا بكرامته ، وحسن مظهره ، وأول ذلك أنه سخر له من لم يكن يعرف من أغنياء المسافرين بالباخرة فتبرع له بأجرة السفر فيها إلى حيث أراد . ومثل هذا التسخير يقع كثيرا لرجال العلم والأدب في أقوامهم وأقطارهم ، وناهيك ما كان يمتاز به الشيخ رحمه الله من جمال الصورة ، ومهابة الطلعة ، وحسن الزي والوقار يزينه اللطف والتواضع ، ولكن هل يقدم من كان مثله في كرامته وإبائه على الخروج من بلده ، وركوب البحر وهو لا يحمل درهما ولا دينارا لولا شدة الثقة بالله ، واطمئنان القلب بالتوكل عليه ؟ كلا إنما يقدم على مثل هذا ممن لا يعقل معنى التوكل أناس
[ ص: 30 ] من الشطار اتخذوا الاحتيال على استجداء الأغنياء والأمراء بمظاهرهم الخادعة وتلبيساتهم الباطلة ، صناعة يروجونها بالغلو في إطرائهم .
ومثل
عناية الله تعالى بالمتوكلين عليه في تسخير الأسباب الشريفة لهم ما وقع لشيخنا الأستاذ الإمام أيام كان منفيا في
بيروت : قال لي : جاءني فلان من أصدقائي المصريين المنفيين يوما وقال : إنه توفي والده ، وأنه لا بد له من العناية اللائقة به في تجهيزه ، وليس في يده ما يكفي لذلك : قال الشيخ : وكنت قبضت راتبي الشهري من المدرسة السلطانية لم أعط منه شيئا للتجار الذين نأخذ منهم مؤنة الدار فنقدته إياه كله لعلمي بحاجته إليه كله ، ووكلت أمري وأمر أسرتي إلى الله تعالى ، فلم يمر ذلك النهار إلا وقد جاءني حوالة برقية بمبلغ أكبر من راتب المدرسة كان دينا لي قديما على رجل أعياني أمر تقاضيه منه ، وأنا فيها ممتع بما تعلم من النفوذ ، وكتبت إليه بعد سفري مرارا أتقاضاه منه مستشفعا بعذر الحاجة حتى يئست منه ، فهل كان إرساله إياه في ذلك اليوم بتحويل برقي إلا تسخيرا منه تعالى بعنايته الخاصة ؟
( أقول ) : إنني أراني غير خارج بهذه الأمثال عن منهج هذا التفسير المراد به التفقه والاعتبار ، وأنا أرى الناس يزداد إعراضهم عن الدين والاهتداء بالقرآن ، وتقل فيهم القدوة الصالحة .