وأما
قوله تعالى : ترهبون به عدو الله وعدوكم فمعناه : أعدوا لهم ما استطعتم من القوة الحربية الشاملة لجميع عتاد القتال وما يحتاج إليه الجند ، ومن الفرسان المرابطين في ثغوركم وأطراف بلادكم حالة كونكم ترهبون بهذا الإعداد - أو المستطاع من القوة والرباط - عدو الله الكافرين به ، وبما أنزله على رسوله ، وعدوكم الذين يتربصون بكم الدوائر ويناجزونكم الحرب عند الإمكان . والإرهاب : الإيقاع في الرهبة ، ومثلها الرهب بالتحريك ، وهو الخوف المقترن بالاضطراب ، كما قال
الراغب . وكان مشركو
مكة ومن والاهم هم الجامعين لهاتين العداوتين في وقت نزول الآية عقب غزوة
بدر ، وفيهم نزل في
المدينة :
لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ( 60 : 1 ) وقيل : يدخل فيهم أيضا من والاهم من
اليهود كبني قريظة . وقيل : لا ، وإيمان هؤلاء بالله وبالوحي لم يكن يومئذ على الوجه الحق الذي يرضي الله تعالى ،
واليهود الذين والوهم على عداوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ هم المعنيون أو بعض المعنيين بقوله تعالى :
وآخرين من دونهم أي : وترهبون به أناسا من غير هؤلاء الأعداء المعروفين أو من ورائهم
لا تعلمونهم الله يعلمهم أي : لا تعلمون الآن عداوتهم ، أو لا تعرفون ذواتهم وأعيانهم بل الله يعلمهم وهو علام الغيوب . قال
مجاهد : هم
بنو قريظة ، وعزاه
البغوي إلى
مقاتل وقتادة أيضا . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : هم أهل فارس قال
مقاتل nindex.php?page=showalam&ids=16327وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هم المنافقون . وسيأتي توجيهه ، وقال
السهيلي : المراد كل من لا تعرف عداوته ، والمعنى أنه عام فيهم وفي غيرهم من الأقوام الذين أظهرت الأيام بعد ذلك عداوتهم للمسلمين في عهد الرسول ومن بعده كالروم ، وعجيب ممن ذكر الفرس في تفسيرها ولم يذكر الروم الذين كانوا أقرب إلى جزيرة العرب ، بل قال بعضهم ما معناه : إنه يشمل من عادى جماعة المسلمين وأئمتهم من المسلمين أنفسهم وقاتلهم ، كالمبتدعة الذين خرجوا على الجماعة وقاتلوهم أو أعانوا أعداءهم عليهم . وقال
الحسن : هم الشياطين والجن ورووا فيه حديثا عن
عبد الله بن غريب عن أبيه عن جده عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : "
هم الجن ولا يخبل الشيطان إنسانا في داره فرس عتيق " قال
الآلوسي : وروي ذلك عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أيضا واختاره
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري ، وإذا صح الحديث لا ينبغي العدول عنه . اهـ . وهو ظاهر في اختياره له بظنه أن الحديث صحيح ، وبمثل هذه الروايات المنكرة عن المجهولين يصرفون المسلمين عن المقاصد المهمة التي عليها مدار شوكتهم وحياتهم ، إلى مثل هذا المعنى الخرافي الذي حاصله أن اقتناء الخيل العتاق يرهب
[ ص: 56 ] الجن ويحفظ الناس من خبلهم ، كأنها تعاويذ للوقاية من الجنون ، لا عدة لإرهاب العدو ، وهو خلاف المتبادر من الآية ، ومن سائر السياق الذي هو في قتال المحاربين من أعداء المؤمنين ، والحديث فيه لم يصح ، قال
الحافظ ابن كثير بعد أن أورده : وهذا الحديث منكر لا يصح إسناده ولا متنه اهـ .
وأقول : إن من سقطات
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير اختياره له ، واستدلاله على بطلان سائر الأقوال التي رواها في معنى الآية وتقدم ذكرها بقوله تعالى :
لا تعلمونهم الله يعلمهم وزعمه أنهم كانوا يعلمون عداوة
بني قريظة وفارس والمنافقين لهم قبل نزول الآية وهو غير مسلم على إطلاقه ، فأما نقض
قريظة للعهد فقد اعتذروا عنه فقبل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عذرهم ولم يعاملهم معاملة الأعداء ولا سيما عند نزول هذه السورة عقب غزوة
بدر ، وأما
الفرس فلم تكن عداوتهم تخطر ببال أحد من المسلمين في ذلك العهد ، وكذلك المنافقون لم يكونوا يعدون من الأعداء الذين يرهبون بإعداد قوى الحرب ورباط الخيل ، إذ لم يفضح الوحي كفر الكثيرين منهم إلا بعد ذلك في غزوة
تبوك وبقي باقيهم على ظاهر إسلامه ، قال
ابن كثير بعد نقل الأقوال السابقة وما تقدم عنه في حديث
عبد الله بن غريب : وقال
nindex.php?page=showalam&ids=17132مقاتل بن حيان nindex.php?page=showalam&ids=16327وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هم المنافقون . وهذا أشبه الأقوال ويشهد له قوله تعالى :
وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم ( 9 : 101 ) اهـ . وقال بعضهم بالوقف عن تعيينهم ، لقوله تعالى لنبيه :
لا تعلمهم نحن نعلمهم ولكن عدم علمهم عند نزول الآية لا ينافي هذا العلم بعد ذلك . والمختار عندنا أن العبارة تشمل كل من ظهرت عداوته بعد ذلك لجماعة المسلمين من أعداء الله ورسوله ، ومن المبتدعين في دينه الكارهين لجماعة المسلمين كما تقدم بعد نقل عبارة
السهيلي .
وقال
الرازي في التعليل : ثم إن الله تعالى ذكر ما لأجله أمر بإعداد هذه الأشياء فقال :
ترهبون به عدو الله وعدوكم وذلك أن
الكفار إذا علموا أن كون المسلمين متأهبين للجهاد ومستعدين له مستكملين لجميع الأسلحة والآلات خافوهم ، وذلك الخوف يفيد أمورا كثيرة : ( أولها ) أنهم لا يقصدون دار الإسلام . ( وثانيها ) أنه إذا اشتد خوفهم فربما التزموا من عند أنفسهم جزية . ( وثالثها ) أنه ربما صار ذلك داعيا لهم إلى الإيمان ( ورابعها ) أنهم لا يعينون سائر الكفار . ( وخامسها ) أن يصير ذلك سببا لمزيد الزينة في دار الإسلام .
ثم قال في تفسير الآخرين من دونهم : والمراد أن تكثير آلات الجهاد وأدواتها كما يرهب الأعداء الذين نعلم كونهم أعداء ، كذلك يرهب الأعداء الذين لا نعلم أنهم أعداء ، ثم فيه وجوه الأول وهو الأصح أنهم هم المنافقون - وبينه من وجهين : ( الأول ) أنهم إذا شاهدوا قوة المسلمين وكثرة آلاتهم وأدواتهم انقطع طمعهم من أن يصيروا مغلوبين ، وذلك يحملهم
[ ص: 57 ] على أن يتركوا الكفر في قلوبهم وبواطنهم ويصيروا مخلصين في الإيمان . ( الثاني ) أن
المنافق من عادته أن يتربص ظهور الآفات ، ويحتال في إلقاء الإفساد والتفريق فيما بين المسلمين ، فإذا شاهد كون المسلمين في غاية القوة خافهم ، وترك هذه الأفعال المذمومة اهـ . وكل ما قاله حسن وصواب إلا قوله بترك المنافق للكفر الذي في قلبه إلخ . ففيه أن ذلك ليس باختياره . والأولى أن يقال : إنه يوطن نفسه على أعمال الإسلام حتى يرجى أن يصير مخلصا بظهور محاسن الإسلام له بعد خفائها عنه بتوقعه هلاك المسلمين .
وقالوا : العلم هنا بمعنى المعرفة ؛ لأنه تعدى إلى مفعول واحد من البسائط ، أي لا تعرفون ذواتهم وأعيانهم . وما عليه الجمهور من عدم إسناد المعرفة إلى الله تعالى . أو وصفه بها خاص بلفظها ، أو بما يشعر بما خصوا بها معناها من كونه إدراك الشيء بتفكر وتدبر لأثره ، كما قال
الراغب . وقيل : إن المراد لا تعلمونهم معادين لكم ، ويعلله من قال : هم المنافقون بأنهم مردوا على النفاق وأتقنوه بحيث لا يظهر منهم ما يفضحهم فيه .
أقول : وهذا التقييد لإعداد المستطاع من القوة ومن رباط الخيل بقصد إرهاب الأعداء المجاهرين والأعداء المستخفين وغير المعروفين - ومن سيظهر من الأعداء للمؤمنين كالفرس والروم - دليل على تفضيل جعله سببا لمنع الحرب على جعله سببا لإيقاذ نارها ، فهو يقول : استعدوا لها ليرهبكم الأعداء عسى أن يمتنعوا عن الإقدام على قتالكم ، وهذا عين ما يسمى في عرف دول هذه الأيام بالسلام المسلح ، بناء على أن الضعف يغري الأقوياء بالتعدي على الضعفاء ، ولكن الدول الاستعمارية تدعي هذا بألسنتها وهي كاذبة في دعواها أنها تقصد بالاستعداد للحرب حفظ السلم العام ، وكان يظن أنهم يقصدون السلم الخاص بدول
أوربة ، وأن الحرب امتنعت منها ، فأبطلت ذلك الظن الحرب العامة الأخيرة التي كانت أشد حروب التاريخ أهوالا وتقتيلا وتخريبا ، والإسلام ليس كذلك ؛ لأنه تعبد الناس بهذه النصوص تعبدا ، ويؤيد هذا المعنى آية السلم التي تلي هذه الآية .