ولما كان السلم هو المقصود الأول كما أفاد مفهوم الآية السابقة ، أكده بمنطوق الآية اللاحقة ، فقال جلت حكمته وسبقت رحمته :
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها قرأ الجمهور " للسلم " بفتح السين ،
وأبو بكر بكسرها وهما لغتان . وهي كالسلام : الصلح ، وضد الحرب ، والإسلام دين السلم والسلام
يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ( 2 : 208 ) ولفظ السلم مؤنث كمقابله ( الحرب ) وبعض العرب يذكرهما . وجنح للشيء وإليه مال ، أو هو خاص بالميل إلى أحد الجناحين أي الجانبين المتقابلين كجناحي الطير والإنسان والسفينة والعسكر . وقالوا : جنحت الشمس للغروب أي مالت إلى جانب الغرب الذي تغيب في أفقه ، وهو مقابل لجانب الشرق الذي تطلع منه ، ولا يقال : جنحت للشرق ، لأننا لا نراها قبل شروقها مائلة إلى جانب غير الذي انقلبت عنه ، ولكن يقال : جنح الليل ، بمعنى مال للذهاب وللمجيء . والمعنى : وإن مالوا عن جانب الحرب إلى جانب السلم خلافا للمعهود منهم في حال قوتهم ، فاجنح لها أيها الرسول ، لأنك أولى بالسلم منهم . وعبر عن جنوحهم بـ " إن " التي يعبر بها عن المشكوك في وقوعه ، أو ما من شأنه ألا يقع ، للإشارة إلى أنهم ليسوا أهلا لاختياره لذاته ، وأنه لا يؤمن أن يكون جنوحهم إليه كيدا وخداعا ، ولذلك قال :
وتوكل على الله إنه هو السميع العليم اقبل منهم السلم ، وفوض أمرك إلى الله تعالى ، فلا تخف كيدهم ومكرهم وتوسلهم بالصلح
[ ص: 60 ] إلى الغدر كما فعلوا بنقض العهد ، إنه عز وجل هو السميع لما يقولون ، العليم بما يفعلون ، فلا يخفى عليه ما يخفى عليك من ائتمارهم وتشاورهم ، ولا من كيدهم وخداعهم .
قيل : إن الآية خاصة بأهل الكتاب ؛ لأنها نزلت في
بني قريظة الذين نقضوا العهد كما تقدم في أول هذا السياق ، وإن نظر فيه
ابن كثير محتجا بأن السورة كلها نزلت في وقعة بدر ، وتقدم أنها من أنباء الغيب ، ويرد التخصيص قبوله صلوات الله وسلامه عليه الصلح من المشركين في الحديبية ، وترك الحرب إلى مدة عشر سنين ، مع ما اشترطوا فيه من الشروط الثقيلة التي كرهها جميع الصحابة رضوان الله عليهم ، وكادت تكون فتنة ، وقيل : إنها عامة ولكنها نسخت بآية السيف في سورة المائدة ؛ لأن مشركي العرب لا يقبل منهم إلا الإسلام . وروي القول بنسخها عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ومجاهد nindex.php?page=showalam&ids=16327وزيد بن أسلم nindex.php?page=showalam&ids=16566وعطاء الخراساني وعكرمة والحسن وقتادة . نقله
ابن كثير وتعقبه بقوله : وفيه نظر أيضا ؛ لأن آية ( براءة ) فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك . فأما
إذا كان العدو كثيفا فإنه يجوز مهادنتهم ، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة . وكما فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم
الحديبية ، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص والله أعلم اهـ .
وقد يقال في الجواب أيضا : إن المشركين لم يثبت أنهم جنحوا إلى السلم ، وأباه عليهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل أجابهم إليه في الحديبية كما تقدم آنفا ، ثم ظلوا يقاتلونه إلى ما بعد فتح
مكة عاصمة دينهم ودنياهم ، كما فعلوا في الطائف إلى أن ذهبت ريحهم ، وخضدت شوكة زعمائهم ، وصار سائر العرب يدخلون في دين الله أفواجا ، وتم ما أراد الله من إسلام أهل جزيرة العرب إلا قليلا من
أهل الكتاب ، لأجل أن يكون مهد الإسلام حصنا ومئزرا للإسلام . ثم بين تعالى أمره بالتوكل في حال قبول السلم إن جنحوا إليه على خلاف المعهود منهم اختيارا فقال :