وإن يريدوا أن يخدعوك بجنوحهم للسلم ، ويفترضوه لأجل الاستعداد للحرب ، أو انتظار غرة تمكنهم من أهل الحق
فإن حسبك الله أي : كافيك أمرهم من كل وجه " حسب " تستعمل بمعنى الكفاية التامة ، ومنها قولهم : أحسب زيد عمرا ، أو أعطاه حتى أحسبه ، أي أجزل له وكفاه ، حتى قال : حسبي ، أي لا حاجة لي في الزيادة . وقال المدققون من النحاة : إنها صفة مشبهة بمعنى اسم الفاعل من أحسبه ، ومنه قول
البيضاوي وغيره في تفسيرها هنا ، أي محسبك وكافيك قال
جرير :
إني وجدت من المكارم حسبكم أن تلبسوا خز الثياب وتشبعوا
ثم بين تعالى أن هذه الكفاية بالتأييد الرباني ، وأن منه تسخير المؤمنين للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجعلهم أمة متحدة متآلفة متعاونة على نصره فقال :
هو الذي أيدك بنصره [ ص: 61 ] بتسخير الأسباب ، وما هو وراء الأسباب من خوارق العادات كالملائكة التي ثبتت القلوب في يوم
بدر ( وبالمؤمنين ) من
المهاجرين والأنصار ، وروي أن المراد بهم
الأنصار بدليل قوله :
وألف بين قلوبهم أي : بعد التفرق والتعادي الذي رسخ بالحرب الطويلة والضغائن الموروثة ، وجمعهم على الإيمان بك ، وبذل النفس والنفيس في مناصرتك .
قال أصحاب القول الثاني : كان هذا بين
الأوس والخزرج من
الأنصار ، ولم يكن منه شيء بين
المهاجرين ، أي وفيهم نزلت :
واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ( 3 : 103 ) إلخ . ولكن هذا لا يمنع إرادة مجموع
المهاجرين والأنصار ، فقد كانوا بنعمته إخوانا لم يقع بينهم تحاسد ولا تعاد كما هو شأن البشر في مثل هذا الشأن ، كما ألف بين
الأوس والخزرج فكانوا بنعمته إخوانا بعد طول العداء والعدوان ، وقد
كاد يقع التغاير بين المهاجرين والأنصار عند قسمة الغنائم في حنين فكفاهم الله شر ذلك بفضله وحكمة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد كان عدد
المهاجرين في غزوة
بدر ثمانين رجلا أو زيادة كما ذكر الحافظ في فتح الباري ، وكان الباقون من
الأنصار وهم تتمة ثلاثمائة وبضعة عشر . والعمدة في إرادة الفريقين أن التأييد بالفعل والنصر حصل بكل منهما في جميع الوقائع ،
وكان المهاجرون في المرتبة الأولى في كل شيء لسبقهم إلى الإيمان والعلم ، ونصر الله ورسوله في زمن القلة والشدة والخوف ، وقد أسند إليهم هذا النصر في سورة الحشر التي نزلت في غزوة
بني النضير عند ذكر مراتب المؤمنين ، فقال في قسمة فيئهم :
للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ( 59 : 8 ) ثم قال في
الأنصار :
والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ( 59 : 9 ) إلى آخر الآية ، وهي دليل على أن النصر ينال بالأسباب ، وأن ذلك يتوقف على التآلف والاتحاد ، وكل ذلك بفضل مقدر الأسباب ورحمته بالعباد ، ولذلك قال :
لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم يعني أنه لولا نعمة الله عليهم بالإيمان ، وأخوته التي هي أقوى عاطفة ومودة من أخوة الأنساب والأوطان ، لما أمكنك يا
محمد أن تؤلف بين قلوبهم بالمنافع الدنيوية ، ولو أنفقت جميع ما في الأرض من الأموال والمنافع في سبيل هذا التأليف ، أما
الأنصار فلأن الأضغان الموروثة ، وأوتار الدماء المسفوكة ، وحمية الجاهلية الراسخة ، لا تزول بالأعراض الدنيوية العارضة ، وإنما تزول بالإيمان الصادق الذي هو مناط سعادة الدنيا والآخرة ، وأما
المهاجرون فلأن التأليف بين غنيهم وفقيرهم ، وسادتهم ومواليهم ، وأشرافهم ودهمائهم ، على ما كان فيهم من كبرياء الجاهلية ، وجمع
[ ص: 62 ] كلمتهم على احتمال عداوة بيوتهم وعشائرهم وحلفائهم في سبيل الله ، لم يكن كله مما يمكن نيله بالمال وآمال الدنيا - ولم يكن في يد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيء منهما في أول الإسلام ، ولكن صار بيده في المدينة شيء عظيم منهما بنصر الله له في قتال المشركين
واليهود جميعا - وأما مجموع
المهاجرين والأنصار فقد كان اجتماعهما لولا فضل الله وعنايته مدعاة التحاسد والتنازع ، لما سبق لهما من عصبية الجاهلية ، وما كان لدى
المهاجرين من مزية قرب الرسول والسبق إلى الإيمان به ، وما لدى
الأنصار من المال والقوة وإنقاذ الرسول
والمهاجرين جميعا من ظلم قومهم ، ومن المنة عليهم بإيوائهم ومشاركتهم في أموالهم ، وفي هذا وذاك من دواعي التغاير والتحاسد ما لا يمكن أن يزول بالأسباب الدنيوية ، فهو تعالى يقول للرسول : لست أنت المؤلف بينهم ،
ولكن الله ألف بينهم بهدايتهم إلى هذا الإيمان بالفعل ، الذي دعوتهم إليه بالقول
إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ( 28 : 56 ) وإنما عليك البلاغ ، وهداية الدعوة والبيان
وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ( 42 : 52 ) بالدعاية ، وتدعو الله أنت ومن آمن معك بقوله :
اهدنا الصراط المستقيم ( 1 : 6 ) أي بالفعل والتوفيق والعناية . وهذا ثناء من الله عز وجل على صحابة رسوله تفند مطاعن
الرافضة الضالة الخاسرة فيهم .
لا يوجد سبب للتوحيد والتعاون بين البشر كالتآلف والتحاب ،
ولا يوجد سبب للتحاب والتآلف كأخوة الإيمان . قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : قرابة الرحم تقطع ، ومنة النعمة تكفر ، ولم ير مثل تقارب القلوب ، وقرأ الآية . رواه
البيهقي ، ورواه
عبد الرزاق والحاكم عنه بلفظ : إن الرحم لتقطع ، وإن النعمة لتكفر ، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء . ثم قرأ :
لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم الآية .
وقد ورد من الأحاديث في
التحاب في الله ما ينبئ بشأن هذه الفضيلة ، ويرغب فيها ، واتفق حكماء البشر غابرهم وحاضرهم على أن المحبة أعظم الروابط بين البشر ، وأقوى الأسباب لسعادة الاجتماع الإنساني وارتقائه . واتفقوا أيضا على أن المحبة إذا فقدت لا يحل محلها شيء في منع الشر ، والوقوف عند حدود الحق ، إلا فضيلة العدل . ولما كانت وهمية غير اختيارية ، وكان العدل من الأعمال الكسبية ، جعل الإسلام المحبة فضيلة والعدل فريضة ، وأوجبه لجميع الناس في الدولة الإسلامية ، وحكومتها الشرعية ، لا يختص به مسلم دون كافر ، ولا بر دون فاجر ، ولا قريب من
الحاكم دون بعيد ، ولا غني دون فقير ، وتقدم تفصيل هذا في تسفير الآيات المقررة له
[ ص: 63 ] وقد ختم الله تعالى هذه الآية بقوله :
إنه عزيز حكيم ؛ لأنه تعليل لكفاية الله لرسوله شر خداع الأعداء ، وتأييده بنصره وبالمؤمنين ، لا للتأليف بين المؤمنين ، فإن العمدة في الكلام هو الكفاية والتأييد ، وهو المناسب لكونه تعالى هو العزيز أي الغالب على أمره الذي لا يغلبه خداع الخادعين ، ولا كيد الماكرين ، الحكيم في أفعاله كنصره الحق على الباطل ، وفي أحكامه كتفضيله الجنوح للسلم إذا جنح إليها العدو على الحرب كما تقدم ، ولو كان تعليلا للتأليف بين المؤمنين وحده لكان الأنسب أن يعلل بقوله : " إنه رءوف رحيم " على أن هذا التأليف في هذا المقام ما كان إلا بعزة الله وحكمته في إقامة هذا الدين .