والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وهذا هو الصنف الثالث من أصناف المؤمنين ، وهم
المقيمون في أرض الشرك تحت سلطان المشركين وحكمهم [ ص: 97 ] وهي دار الحرب والشرك بخلاف من يأسره الكفار من أهل دار الإسلام ، فله حكم أهل هذه الدار ، ويجب على المسلمين السعي في فكاكهم بما يستطيعون من حول وقوة باتفاق العلماء ، بل يجب مثل هذه الحماية
لأهل الذمة أيضا ، وكان حكم غير
المهاجرين أنهم لا يثبت لهم شيء من ولاية المؤمنين الذين في دار الإسلام ، إذ لا سبيل إلى نصر أولئك لهم ، ولا إلى تنفيذ هؤلاء لأحكام الإسلام فيهم ، والولاية حق مشترك على سبيل التبادل .
ولكن الله خص من عموم الولاية المنفية الشاملة لما ذكرنا من الأحكام شيئا واحدا فقال :
وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر فأثبت لهم من ولاية أهل دار الإسلام حق نصرهم على الكفار إذا قاتلوهم أو اضطهدوهم لأجل دينهم ، وإن كانوا هم لا ينصرون أهل دار الإسلام لعجزهم . ثم استثنى من هذا الحكم حالة واحدة فقال :
إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق يعني إنما يجب عليكم أن تنصروهم إذا استنصروكم في الدين على الكفار الحربيين دون المعاهدين ، فهؤلاء يجب الوفاء بعهدهم ؛ لأن الإسلام لا يبيح
الغدر والخيانة بنقض العهود والمواثيق كما تقدم في تفسير آية :
وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ( 8 : 58 ) .
وهذا الحكم من أركان سياسة الإسلام الخارجية العادلة ، ومن المعلوم بالبداهة أن
العهد الذي يكون بين المسلمين الذين في دار الإسلام وبين الكفار لا ينتقض بتعديهم على المسلمين الخارجين من دار الإسلام التي يسمى رئيسها خليفة الإسلام ، والإمام الأعظم والإمام الحق ( وهو الذي يقيم أحكام الإسلام وحدوده ويحمي دعوته ) وإن ألف هؤلاء المسلمون غير الخاضعين للإمام الحق حكومة أو حكومات لهم ، وإنما ينتقض عهدهم بتعديهم على حكومة الإمام أو أحد البلاد الداخلة في حدود حكمه ، ولكن إذا تضمن العهد بينه وبين بعض دول الكفار أن لا يقاتلوا أحدا من المسلمين غير الخاضعين لأحكامه ، فإنه ينتقض بقتالهم المخالف لنص العهد ، وحينئذ يجب نصر أولئك المسلمين على المعتدين عليهم لأجل دينهم ، وكذا لأجل دنياهم إن تضمن العهد ذلك ، كما يجب نصرهم على من لا عهد بين حكومة الإمام وحكومتهم ؛ لأنه حامي الإيمان وناشر دعوته . وقد أخذ أعظم دول الإفرنج هذا الحكم عن الإسلام ، ومن ألقاب ملك الإنكليز الرسمية " حامي الإيمان " ولكن المسلمين تركوه ثم طفقوا يتركون أصل الإسلام والإيمان .
والله بما تعملون بصير لا يخفى عليه شيء منه ، فعليكم أن تقفوا عند حدوده فيه لئلا تقعوا في عقاب المخالفة له ، وأن تراقبوه وتتذكروا اطلاعه على أعمالكم وتتوخوا فيها الحق والعدل والمصلحة وتتقوا الهوى الصاد عن ذلك . وبمثل هذا الإنذار الإلهي تمتاز الأحكام السياسية الإسلامية على الأحكام القانونية المدنية بما يجعل المسلمين أصدق في إقامة شريعتهم ،
[ ص: 98 ] وأجدر بالوفاء بعهودهم ، وأبعد عن الخيانة فيها سرا وجهرا ، وفي هذا من المصلحة لخصومهم من الكفار ما هو ظاهر فكيف بأهل ذمتهم ؟ وإننا نرى أعظم دول المدنية العصرية تنقض عهودها جهرا عند الإمكان ، ولا سيما عهودها للضعفاء ، وتتخذها دخلا وخداعا مع الأقوياء ، وتنقضها بالتأويل لها إذا رأت أن هذا في منفعتها . وقد قال أعظم رجال سياستهم البرنس بسمارك معبرا عن حالهم : المعاهدات حجة القوي على الضعيف . ( وقال ) في الدولة البريطانية : إنها أبرع الدول في التفصي في المعاهدات بالتأويل .