(
والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس ) قالوا : إن البأساء اسم من البؤس وهو الشدة والفقر ، والضراء ما يضر الإنسان من نحو مرض أو جرح ، أو فقد محبوب من مال وأهل ، وفسروا البأس باشتداد الحرب ، والصبر يحمد في هذه المواطن وفي غيرها ، وخص هذه الثلاث بالذكر ; لأن من صبر فيها كان في غيرها أصبر ، لما في احتمالها من المشقة على النفس والاضطراب في القلب ; فإن الفقر إذا اشتدت وطأته يضيق له الذرع ، ويكاد يفضي إلى الكفر ، والضر إذا برح بالبدن يضعف الأخلاق حتى لا يكاد المرء يحتمل ما كان يسر به في حال الصحة ، فما بالك بالمرض وآلامه وما يطرأ في أثنائه من الأمور التي تسوء النفس ، وأما حالة اشتداد الحرب فهي على ما فيها من الشدة والتعرض للهلكة بخوض غمرات المنية يطلب فيها من الصبر ما لا يطلب في غيرها ; لأن الظفر مقرون بالصبر ، وبالظفر حفظ الحق الذي يناضل من يجاهد في سبيل الله دونه ويدافع عنه ، ويحاول إظهاره ويبغي انتشاره ، وهذا هو المأمور من الله تعالى بالصبر حين البأس ، لا المحارب لطمع الدنيا وأهواء الملوك .
وقد ورد في الأحاديث الصحيحة أن
الفرار من الزحف من أكبر الكبائر ، وعبر عنه في بعضها بالكفر ، فلا غرو أن يجعل
الصبر في حين البأس أصلا من أصول البر ، وقد كان المسلمون بإرشاد هذه النصوص أعظم أمة حربية في العالم فما زال استبداد الحكام يفسد من بأسهم ، وترك الاهتداء بالكتاب والسنة يفل من غربهم ، حتى سبقتهم الأمم كلها في ميادين الكفاح ، وحتى صرنا نسمع من أمثالهم : فر لعنه الله ، خير من مات رحمه الله .
وأبعد الناس عندنا عن الصبر وأدناهم من الجزع والهلع والفزع المشتغلون بالعلوم الدينية ،
[ ص: 99 ] فإن الشجاعة والفروسية والرماية عندهم من المعايب التي تزري بالعالم وتحط من قدره ، وهم مع هذا يقرءون في كتبهم أن الشرع أباح المراهنة - وهي من القمار الذي هو من كبائر الإثم - في السباقة والرماية خاصة عناية بهما وترغيبا للأمة فيهما فهذا البعد عن الدين ممن يسمون أنفسهم ورثة الأنبياء ، هو الذي قال
nindex.php?page=showalam&ids=13974الجاحظ : إنه لا يصل إليه أحد إلا بخذلان من الله .
وانظر بعد هذا حكم الله تعالى على البررة الذين يقيمون ما تقدم ذكره من أركان البر .
قال : (
أولئك الذين صدقوا ) أي : أولئك الأبرار الراسخون في أصول الإيمان الخمسة والمنفقون للمال في مواضعه الستة ، والمقيمون للصلاة الروحية الاجتماعية والمؤتون للزكاة التي عليها مدار أمور الملة المالية والسياسية ، والموفون بعهودهم الثلاثة : الدينية والمالية والحربية ، والصابرون في مواقف الشدة الثلاثة - هم الذين صدقوا الله في دعوى الإيمان دون الذين قالوا آمنا بأفواههم ، ولم تؤمن قلوبهم (
وأولئك هم المتقون ) الذين تشهد لهم بالتقوى أعمالهم وأحوالهم ،
والتقوى : أن تجعل بينك وبين سخط الله وقاية بأن تتحامى أسباب خذلانه في الدنيا وعذابه في الآخرة .