وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم هذا بيان للأمر الثاني من أحوال المشركين . نكث الغزل أو الحبل ضد إبرامه ، وهو نقض فتله ، وحل الخيوط التي تألف منها ، وإرجاعها إلى أصلها ، ومنه :
ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ( 16 : 92 ) والأيمان العهود ، يضع كل من العاقدين للعهد يمينه في يمين الآخر ، أو ما يوثق منها بالقسم كما تقدم . ونكث الأيمان هنا يقابل فيما قبله استقامتهم عليها ، والطعن في ديننا في الجملة التالية يقابل فيما فرض توبتهم من الكفر به بدخولهم في جماعته ، والمعنى : وإن نكث هؤلاء المشركون ما أبرمته أيمانهم أو ما أقسموا عليه أيمانهم من الوفاء بعد عهدهم الذي عقدوه معكم
وطعنوا في دينكم أي : عابوه وثلبوه بالاستهزاء به ، وصد الناس عنه وهو الذي عابه عليهم في الآيات المقابلة لهذه ، ومنه الطعن في القرآن وفي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما كان يفعل شعراؤهم الذين أهدر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دماءهم ، فهذا العطف بيان للواقع ، وإيذان بأن الطعن في الإسلام ضرب من ضروب نكث الأيمان ، ونقض السلم والولاء ، كالقتال ومظاهرة الأعداء ، فهو من عطف الخاص على العام ، وليس المراد به تقييد حل قتالهم بالجمع بين الأمرين ، بل هو كقوله :
ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا ( 9 : 4 )
فقاتلوا أئمة الكفر فقاتلوهم فهم أئمة الكفر أي قادة أهله وحملة لوائه ، فوضع الاسم الظاهر المبين لشر صفاتهم موضع ضميرهم ، وقيل : إن المراد بأئمة الكفر رؤساء المشركين وصناديدهم الذين كانوا يغرونهم بعداوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويقودونهم لقتاله ، وذكر بعض من قال هذا منهم
أبا سفيان وأبا جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف ممن كان قتل في
بدر أو بعدها ، وذلك من الغفلة بمكان ؛ لأن السورة نزلت بعد غزوة
[ ص: 173 ] تبوك وبعد فتح
مكة ( وفي أثنائه أسلم
أبو سفيان ) ، وهذه الأحكام إنما تثبت بعد أربعة أشهر من تاريخ تبليغها في يوم النحر من سنة تسع كما تقدم . وحملها بعضهم على
الخوارج ، وبعضهم على
فارس والروم ، وبعضهم على المرتدين بجعل الضمائر فيها راجعة إلى الذين تابوا وأقاموا الصلاة إلخ . واختاره
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري إذ قال في تفسير
فقاتلوا أئمة الكفر : فقاتلوهم . فوضع
أئمة الكفر موضع ضميرهم إشعارا بأنهم إذا نكثوا في حال الشرك تمردا وطغيانا وطرحا لعادات الكرام الأوفياء من العرب ، ثم آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاروا إخوانا للمسلمين في الدين ، ثم رجعوا فارتدوا عن الإسلام ونكثوا ما بايعوا عليه من الإيمان والوفاء بالعهود ، وقعدوا يطعنون في دين الله ويقولون : ليس دين
محمد بشيء ، فهم أئمة الكفر ، وذوو الرياسة والتقدم فيه ، لا يشق كافر غبارهم . وقالوا : إذا
طعن الذمي في دين الإسلام طعنا ظاهرا جاز قتله ؛ لأن العهد معقود معه على ألا يطعن ، فإذا طعن فقد نكث عهده وخرج من الذمة اهـ .
ولا أدري ما الذي حمل هؤلاء المفسرين على إخراج الآية عن ظاهرها ، حتى إنهم رووا عن
علي وحذيفة ـ رضي الله عنهما ـ أنهما قالا : ما قوتل أهل هذه الآية بعد . يعنون أنها نزلت في قوم يأتون بعد ، وزعم بعضهم أنهم
الدجال وقومه من
اليهود ، والحق أنها صريحة في مشركي العرب أصحاب العهود مع المؤمنين من بقي منهم ، ويدخل في حكمها كل من كانت حاله مع المؤمنين كحالهم . فكل من يجمع بين عداوتهم بنكث عهودهم ، والطعن في دينهم فيجب عده من أئمة الكفر ولهم حكمهم ، ومن لم يرهم أهلا لعقد العهد معه على قاعدة المساواة فهو أعدى وأظلم ممن ينكثون الأيمان ، وذلك ما نشاهده من الجامعين بين الاعتداء على شعوبنا وبلادنا ، وبث الدعاة فيها للطعن في ديننا ، لصدنا عنه ، واستبدال دينهم به أو جعلنا معطلين لا دين لنا .
وقد علل تعالى الأمر بقتالهم بقوله :
إنهم لا أيمان لهم أي : إن عهودهم كلا عهود ؛ لأنها مخادعة لسانية لم يقصدوا الوفاء بها
يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ( 48 : 11 ) فهم ينقضونها في أول وهلة يستطيعون فيها ذلك بالظهور أو المظاهرة عليكم ، وقرأ
ابن عامر " إيمان " بكسر الهمزة على أنها مصدر آمنه إيمانا بمعنى إعطاء الأمان . وقرأ هو
وعاصم وحمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي وروح عن
يعقوب ( أئمة ) بتحقيق الهمزتين على الأصل ، والباقون بتليين الثانية . وأما قلبها ياء فليس قراءة ولا لغة ، بل هو لحن لا يجوز . كما قالوا :
لعلهم ينتهون أي : قاتلوهم راجين بقتالكم إياهم أن ينتهوا عن كفرهم وشركهم وما يحملهم عليه من نكث أيمانهم ، ونقض عهودهم ، والضراوة بقتالكم كلما قدروا عليه ، وهو يتضمن النهي عن القتال اتباعا لهوى النفس أو إرادة منافع الدنيا من سلب وكسب وانتقام محض بالأولى ، وتقدم
[ ص: 174 ] نظيره في تفسير
فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون ( 8 : 57 ) وهذا مما امتاز به الإسلام على جميع شرائع الأمم وقوانينها من جعل الحرب ضرورة مقيدة بإرادة منع الباطل ، وتقرير الحق والفضائل .
واستدل
الحنفية بالآية على أن
يمين الكافر لا تنعقد ، ولو كان كذلك لما وجب علينا الوفاء لمن وفى بها منهم واستقام على وفائه والآيات صريحة في الوجوب ، وإنما نفاها عن الناكثين ، وأعلمنا أنهم كانوا عازمين على النكث من أول وهلة ، وهو علام الغيوب ، ولو لم يكن لهم أيمان على الإطلاق لما كان لهم نكث وقد أثبتتهما لهم الآية التالية .