وقد اختلف الفقهاء في
دخول غير المشركين من الكفار المسجد الحرام وغيره من المساجد وبلاد الإسلام ، وقد لخص أقوالهم
البغوي في تفسير الآية ، ونقله عنه
الخازن ببعض تصرف وبغير عزو فقال : وجملة بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام : ( القسم الأول ) الحرم ، فلا يجوز لكافر أن يدخله بحال ذميا كان أو مستأمنا لظاهر هذه الآية ، وبه قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي وأحمد ومالك ، فلو
جاء رسول من دار الكفر والإمام في الحرم فلا يأذن له في دخول الحرم ، بل يخرج إليه بنفسه أو يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم ، وجوز
أبو حنيفة وأهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم .
( القسم الثاني ) من بلاد الإسلام الحجاز وحده ما بين
اليمامة واليمن ونجد والمدينة الشريفة ، قيل : نصفها تهامي ونصفها حجازي ، وقيل : كلها حجازي . وقال
الكلبي :
[ ص: 245 ] حد
الحجاز ما بين جبلي طيئ وطريق
العراق ، سمي حجازا; لأنه حجز بين
تهامة ونجد ، وقيل : لأنه حجز بين نجد والسراة ، وقيل : لأنه حجز بين
نجد وتهامة والشام . قال
الحربي :
وتبوك من
الحجاز . فيجوز للكفار دخول أرض
الحجاز بالإذن ، ولكن لا يقيمون فيها أكثر من مقام المسافر وهو ثلاثة أيام . ( روى
مسلم ) عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر أنه سمع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920260لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب فلا أترك فيها إلا مسلما " زاد في رواية لغير
مسلم وأوصى فقال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920178أخرجوا المشركين من جزيرة العرب " فلم يتفرغ لذلك
أبو بكر وأجلاهم
عمر في خلافته وأجل لمن يقدم تاجرا ثلاثا . عن
nindex.php?page=showalam&ids=13283ابن شهاب أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=920261لا يجتمع دينان في جزيرة العرب أخرجه
مالك في الموطأ مرسلا . ( وروى
مسلم ) عن
جابر قال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=920262إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم " قال
سعيد بن عبد العزيز : جزيرة العرب ما بين الوادي إلى أقصى
اليمن إلى تخوم
العراق إلى البحر ، وقال غيره : حد
جزيرة العرب من أقصى (
عدن أبين ) إلى ريف
العراق في الطول ، ومن
جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف
الشام عرضا . ( القسم الثالث ) سائر بلاد الإسلام ، فيجوز للكافر أن يقيم فيها بعهد وأمان وذمة ، ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم اهـ .
وقد ذكرنا الأحاديث الصحيحة في أمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
بإخراج المشركين وأهل الكتاب من جزيرة العرب ، وألا يبقى فيها دينان ، مع بيان حكمة ذلك في خاتمة الكلام على معاملة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
لليهود في السلم والحرب وإجلائهم من جواره في
المدينة ، وإجلاء
عمر ليهود
خيبر وغيرهم ونصارى
نجران عملا بوصيته في مرض موته ـ صلى الله عليه وسلم ـ [ ص51 ج 10 ط الهيئة ] .
وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء العيلة : الفقر ، يقال : عال الرجل يعيل عيلا وعيلة ( ككال يكيل ) إذا افتقر فهو عائل ، وأعال كثر عياله ، وهو يعول عيالا كثيرين أي يمونهم ويكفيهم أمر معاشهم . ونكر العيلة ; لأن المراد بها ضرب من ضروبها التي يخشاها
أهل مكة ، وهي ما يحدث من قلة جلب الأرزاق إليها والمتاع بالتجارة ، وإنما كان يجلبها المشركون من تجارها ، وممن حولها من أصحاب المزارع في شعابها ووديانها وما يقرب منها من البلاد ذات البساتين والمزارع كالطائف ، وكذا ما كانوا
[ ص: 246 ] يسوقونه من الهدي للحرم ، ويتمتع به فقراؤه ، فأزال تعالى ما كانوا يخافون من العيلة بقلة مواد المعيشة إذا منع المشركون من المجيء إليها بوعدهم بأن يغنيهم من فضله إن شاء ، وفضله كثير فقد صاروا بعد الإسلام . ومنع المشركين من الحرم أغنى مما كانوا قبل ذلك ، وقد جاءهم الغنى من طرق كثيرة ، أسلم
أهل اليمن فصاروا يجلبون لهم الميرة ، بل أسلم أولئك المشركون ولم يبق أحد منهم يمنع من الحرم ، ولا من المسجد ، ثم تفجرت ينابيع الغنى والثروة من كل جانب كما سيأتي .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : كان المشركون يجيئون إلى البيت ، ويجيئون معهم بالطعام يتجرون فيه ، فلما نهوا أن يأتوا البيت قال المسلمون : فمن أين لنا الطعام ؟ فأنزل الله
وإن خفتم عيلة إلخ . قال : فأنزل الله عليهم المطر ، وكثر خيرهم حين ذهب المشركون عنهم . وفي رواية عنه : ألقى الشيطان في قلوب المؤمنين فقال : من أين تأكلون ، وقد نفي المشركون ، وانقطعت عنكم العير ؟ قال الله تعالى :
وإن خفتم عيلة إلخ . فأمرهم بقتال أهل الكفر وأغناهم من فضله اهـ . ويعني هنا الغنائم ، وفي معناه عن
nindex.php?page=showalam&ids=15992سعيد بن جبير قال : أغناهم الله تعالى بالجزية الجارية . وليس المراد أن الجملة الأولى نزلت وحدها ، فلما قالوا ما قالوا وخافوا ما خافوا من عواقبها نزلت الجملة الشرطية التالية لها ، بل نزلت الآية كلها مع ما قبلها وما بعدها دفعة واحدة ( كما تقدم في غيرها ) وكان الله تعالى يعلم ما توسوس به أنفسهم ، وما يلقيه المنافقون والشيطان في قلوب بعضهم من ذلك إذا لم يكن النهي مقرونا بهذا الوعد ، فلم يدع لذلك مجالا .
وأما الغنى من فضل الله فهو أعم مما ورد في الروايات معينا ومبهما ، فقد أغنى الله المؤمنين من العرب السابقين إلى الإسلام ثم من سائر المسلمين جميع أنواع الغنى ، فتح لهم البلاد ، وسخر لهم العباد ، فكثرت الغنائم والخراج ، ومهد لهم سبل الملك والملك ، وبسط لهم في الرزق ، من إمارة وتجارة وزراعة وصناعة ، وكان نصيب
مكة نفسها من ذلك عظيما بكثرة الحاج وأمن طرق التجارة .
وقيد هذا الغنى بقوله :
فسوف يغنيكم الله من فضله للدلالة على أن هذا الوعد إنما يكون أكثره في المستقبل لا في الحال ، وعلى أنه واسع بسعة فضله تعالى ، وغيب لا يخطر لهم أكثره ببال ، وقد صدق وعده به فكان من معجزات القرآن ، وقيده بمشيئته التي لا يشك مؤمن في حصول كل ما تتعلق به ، وأن ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن - لتقوية إيمانهم ، ونوط آمالهم بربهم ، واتكالهم عليه دون مجرد كسبهم ، وإن كانوا مأمورين بالكسب ، لأنه من سننه تعالى في الخلق ، ولكن لا يجوز أن ينسبهم توفيقه وتأييده لهم ، فهو الذي نصرهم وأغناهم فيما مضى كما وعدهم ، وسيزيدهم نصرا وغنى إذا هم وفوا بما شرطه عليهم
[ ص: 247 ] بمثل قوله :
إن تنصروا الله ينصركم ( 47 : 7 ) وما في معناه مما سبق التذكير بمواضعه في تفسير سورة الأنفال وغيرها . وإنما كان قيد المشيئة بالجملة الشرطية المصدرة بـ ( إن ) والأصل فيها عدم الجزم بوقوع شرطها ; لأن متعلقها مما مضت سنته تعالى فيه أن يكون بأسباب كسبية لابد من قيامهم بها ، وتوفيق منه تعالى لا تتم بدونه مسبباتها ، وكل من الأمرين مجهول عندهم لا يمكنهم القطع بحصوله ، وحكمة إبهامه أن يوجهوا همتهم إلى القيام بما يجب عليهم لاستحقاقه ، ولما كانت مشيئته تعالى تجري بمقتضى علمه وحكمته جعل فاصلة الآية قوله :
إن الله عليم حكيم أي: عليم بما يكون من مستقبل أمركم في الغنى والفقر حكيم فيما يشرعه لكم من نهي وأمر ، كنهيه عن قرب المشركين للمسجد الحرام بعد ذلك العام ( تسعة من الهجرة ) ونهيه قبله عن اتخاذ آبائكم وإخوانكم منهم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان . وأمركم قبل ذلك بقتال المشركين بعد انقضاء عهودهم بأربعة أشهر وعلمه بمصالحكم ومنافعكم وحكمته فيما يشرع من الأمر والنهي لكم ، تامان كاملان متلازمان ، فإذا علمتم ذلك ، وعلمتم ما شرعه لكم ، وما قيد به وعده بالجزاء عليه ، والمزيد من فضله ، رأيتم مشيئته عز وجل موافقة لذلك كله .