فأما الإيمان بالله تعالى ، فقد شهد القرآن بأن الفريقين فقدوه بهدم ركنه الأعظم وهو
التوحيد ، فإنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله يشرعون لهم العبادات والحلال والحرام فيتبعونهم ، وذلك حق الرب وحده ، فقد أشركوهم به في الربوبية ، ومنهم من أشرك في الألوهية ، كالذين قالوا :
عزير ابن الله ، والذين قالوا :
المسيح ابن الله أو هو الله ، وسيأتي هذا وذاك في هذا السياق من السورة .
وقد توسع
الرازي في المسألة بأساليبه الكلامية فقال : " التحقيق أن أكثر
اليهود مشبهة ، والمشبه يزعم أن لا موجود إلا الجسم وما يحل فيه ، فأما الموجود الذي لا يكون جسما ولا حالا فيه فهو منكر له ، وما ثبت بالدلائل أن الإله موجود ليس بجسم ولا حالا في جسم فحينئذ يكون المشبه منكرا لوجود الإله ، فثبت أن اليهود منكرون لوجود الإله .
" فإن قيل :
فاليهود قسمان منهم مشبهة ومنهم موحدة ، كما أن المسلمين كذلك ، فهب أن
[ ص: 250 ] المشبهة منهم منكرون لوجود الإله ، فما قولكم في موحدة
اليهود ؟ قلنا : أولئك لا يكونون داخلين تحت هذه الآية ، ولكن إيجاب الجزية عليهم بأن يقال : لما ثبت وجوب الجزية على بعضهم ، وجب القول به في حق الكل ضرورة أنه لا قائل بالفرق " انتهى بنصه .
وهذا الكلام الذي سماه تحقيقا ليس فيه شيء من التحقيق ، ولا من العلم الصحيح ، وإنما هو نظريات كلامية مبنية على اصطلاحات جماعة
الأشاعرة حتى في الألفاظ المفردة ، فالجسم في اللغة هو الشيء الجسيم الضخم ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13147ابن دريد : هو كل شخص مدرك وقال
أبو زيد : الجسم الجسد ، وفي التهذيب ما يوافقه ، قال : الجسم مجتمع البدن وأعضاؤه من الناس والإبل والدواب ونحو ذلك ، مما عظم من الخلق الجسيم انتهى من المصباح . واليهود لا يقولون بأن الإله جسم بشيء من هذه المعاني ، وتعريفه للجسم بما ذكره غير صحيح لغة ولا اصطلاحا ، والإله في اللغة المعبود ،
واليهود لا تنكر وجود المعبود ، والله هو الرب الخالق لكل شيء ،
واليهود يثبتون هذا ، وأنه واحد لا شريك له ، ولكن لهم أفهاما ، في نصوص التوراة يختلفون فيها كالمسلمين ، ومنها ما ظاهره التشبيه ، والذين يسميهم المجسمة من المسلمين ليسوا مجسمة بالمعنى الذي ذكره ، وإنما يسميهم هو وأمثاله مجسمة; لمخالفتهم لأمثاله المتكلمين في إثبات ما وصف الله به نفسه بلا تأويل ، ولا تشبيه ولا تعطيل ، وهو من متكلمي التأويل الذي يكفرون من يخالفهم في بعض تأويلاتهم لها بدعوى أن عدم تأويلها يسلتزم كونه تعالى جسما ، وهي دعوى باطلة ولازم المذهب ليس بمذهب عند الجمهور ، ولو لم يصرح صاحبه بنفي اللزوم ، فكيف إذا صرح به كالسلف ومن تبعهم من الحنابلة الذين ينبزهم أمثاله بلفظ المجسمة بغير علم ولا هدى ، وتأويلات أمثاله للكثير من تلك الآيات قد تسلتزم التعطيل أو تخطئة التنزيل أو قصوره عن بيان عقائد الدين وأصوله بدون كلامهم المبتدع ، حتى إن بعضهم حرم قراءتها على العوام كما أنزلها الله تعالى غير مقرونة بتأويل يخرجها عن مدلول لغة القرآن ، فإن كان لازم المذهب مطلقا فهم الكافرون .
وهو قد انتقل من بحثه في
اليهود ، واختلافهم في فهم صفات الإله إلى اختلاف المسلمين ، مبتدئا بالاعتراف بأن حاصل كلامه " أن كل من نازع في صفة من صفات الله كان منكرا لوجود الله تعالى . ( قال ) وحينئذ يلزم أن تقولوا : إن أكثر المتكلمين منكرون لوجود الله ; لأن أكثرهم مختلفون في صفات الله تعالى " وضرب الأمثال أولا في اختلاف أصحابه الأشعرية ثم في اختلاف غيرهم ، وتحكم في التكفير لبعض المختلفين دون بعض بالنظريات الكلامية الباطلة . وإنما أوردنا كلامه لتنفير المسلمين عن إضاعة الوقت في مثله ، وفيما رتبه عليه من الحكم الشرعي المتعارض ، وهو زعمه أن غير المجسمة من اليهود لا يدخلون تحت حكم هذه الآية في القتال ، ولكن يدخلون تحتها في إيجاب الجزية عليهم ، واستدلاله على هذا
[ ص: 251 ] بأنه لما وجبت الجزية على بعضهم " وجب القول به في حق الكل ، إذ لا قائل بالفرق " ! .
ويرد عليه ( أولا ) أنه لا قائل أيضا بالفرق بين حكم القتال وحكم الجزية الذي هو غاية له ، فليت شعري ماذا يفعل بهم إذا امتنعوا عن أداء الجزية ؟ و ( ثانيا ) أنه لم يقل أحد بما قاله من تقسيم اليهود إلى مجسمة وغير مجسمة ، وأن غير المجسمة لا يدخلون في حكم الآية . و ( ثالثا ) أنه إذا قام الدليل من القرآن على ثبوت حكم ، فلا يجوز أن يتوقف قبوله على قول بعض الفقهاء أو المتكلمين به ، وجعل عدم نقل ذلك عن أحد منهم سببا لتركه ! ! و ( رابعا ) أن الشرك بالله تعالى في العبادة كالدعاء مع الإيمان بأنه موجود ليس بجسم ، ولا حالا في جسم ينافي إيمان الأنبياء الذي دعوا إليه ، ولكن النظريات الكلامية صرفته عن ذلك .
وما يقال في الموحدين من اليهود يقال في الموحدين من
النصارى كأتباع
آريوس من المتقدمين والعقليين المعاصرين من أهل
أوربة وغيرهم ، ويبقى النظر في سائر ما اشترط في قتالهم .
وأما
مخالفة جماهير النصارى للمسلمين ولجميع كتب الله ورسله في الإيمان بالله تعالى ، وما يجب من توحيده فهو ظاهر لا يحتاج إلى نظريات كلامية ، فأصحاب المذاهب الرسمية منهم كلهم يقولون
بألوهية المسيح وربوبيته ويعبدونه جهرا بغير تأويل ، ويقولون بالتثليث ، ومنهم من يعبد أمه
مريم وغيرها من الرسل والصالحين وتماثيلهم ، ولا يعدون الموحدين منهم ، وهؤلاء الموحدون لم يبلغوا أن يكونوا أمة ، وأولي دولة ، بل هم متفرقون في جميع أممهم ، مع أن المسيح عليه السلام جاء مصدقا للتوراة في جميع العقائد ، وإنما نسخ بعض الأحكام العملية ، كما نقل عنه رواة الأناجيل في قوله : " ما جئت لأنقض الناموس ، وإنما جئت لأتمم " وأول ركن من أركان التوراة في الإيمان التوحيد المطلق ، والوصية الأولى من وصاياها العشر التي هي أساس الدين التوحيد ، والنهي الصريح عن اتخاذ الصور والتماثيل ، ونقلوا عنه أيضا أنه قال : " وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ،
ويسوع المسيح الذي أرسلته " وقد بينا هذا بالتفصيل في تفسير المائدة ، وكذا تفسير سورتي آل عمران والنساء بالشواهد من كتبهم .