وقد كان من إصلاح الإسلام الحربي
منع جعل الحرب للإكراه على الدين ، أو للإبادة ، أو للاستعباد الشخصي أو القومي . أو لسلب ثروة الأمم ، أو للذة القهر والتمتع بالشهوات . ومنها
منع القسوة كالتمثيل ،
ومنع قتل من لا يقاتل كالنساء والأطفال والعباد ،
ومنع التخريب والتدمير الذي لا ضرورة تقتضيه . ولا تزال هذه الفظائع كلها على أشدها عند دول أوربة إلا استبعاد الأفراد باسم الملك الشخصي ، فهذا هو الذي يجتنبونه مع بقاء استعبادهم للأقوام والشعوب على ما كان ، في نظام ودسائس يقصد بها إفساد الآداب والأديان . وقد بين شيخنا الأستاذ الإمام صفة الحرب الإسلامية مع الإشارة إلى حروبهم بقوله في رسالة التوحيد
[ ص: 273 ] " ضم الإسلام سكان القفار العربية إلى وحدة ، ولم يعرفها تاريخهم ، ولم يعهد لها نظير في ماضيهم ، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد بلغ رسالته بأمر ربه إلى من جاور البلاد العربية في ملوك الفرس والرومان ، فهزئوا وامتنعوا ، وناصبوه وقومه الشر ، وأخافوا السابلة ، وضيقوا على المتاجر ، فغزاهم بنفسه ، وبعث إليهم البعوث في حياته ، وجرى على سنته الأئمة من صحابته ، طلبا للأمن وإبلاغا للدعوة " .
ثم ذكر سيرتهم العادلة الرحيمة في حربهم ثم في سلمهم ، وما أثمرته من سرعة انتشار وقفى عليها بقوله ( ص211 ) : " قال من لم يفهم ما قدمناه أو لم يرد أن يفهمه : إن الإسلام لم يطف على قلوب العالم بهذه السرعة إلا بالسيف ، فقد فتح المسلمون ديار غيرهم والقرآن بإحدى اليدين والسيف بالأخرى ، يعرضون القرآن على المغلوب فإن لم يقبله فصل السيف بينه وبين حياته .
" سبحانك هذا بهتان عظيم . ما قدمناه من معاملة المسلمين مع من دخلوا تحت سلطانهم ، هو ما تواترت به الأخبار تواترا صحيحا لا يقبل الريبة في جملته ، وإن وقع اختلاف في تفصيله ، وإنما شهر المسلمون سيوفهم دفاعا عن أنفسهم ، وكفا للعدوان عنهم ، ثم كان الافتتاح بعد ذلك من ضرورة الملك ، ولم يكن من المسلمين مع غيرهم إلا أنهم جاوروهم وأجاروهم ، فكان الجوار طريق العلم بالإسلام ، أو كانت الحاجة لصلاح العقل والعمل داعية الانتقال إليه " .
ثم كتب كلمة بليغة في بيان ما كان من فتوحات
النصارى الأوربيين ، ونشرهم لدينهم بالقهر والتقتيل ، وإبادة المخالفين مدة عشرة قرون كاملة ، لم يبلغ السيف من كسب عقائد البشر فيها ما بلغه انتشار الإسلام في أقل من قرن . ونقول نحن أيضا : إن من المعلوم من التاريخ بالضرورة لكل مطلع عليه أن العرب المسلمين لم يكن لهم في ذلك القرن من القوة العددية والآلية ، ولا من سهولة المواصلات ما يمكنهم من قهر الشعوب التي فتحوا بلادها على ترك دينها ، ولا على قبول سيادة شعب كالشعب العربي كان دونها في حضارتها وقوتها ، فهم لم يخضعوا للمسلمين ويدينوا بدينهم ، ويتعلموا لغتهم إلا لما ظهر لهم من أن دينهم هو دين الحق الموصل لسعادة الدنيا والآخرة - أو من أنهم أفضل الحكام وأعدلهم .
ثم أشار الأستاذ إلى ما كان من شأن الإسلام فيما سماه الفتح الذي تقتضيه ضرورة الملك ، أو الحرب التي يقول علماء أوربة : إنها سنة من سنن الاجتماع البشري ، تقتضيها الضرورة وتترتب عليها فوائد كثيرة في مقابلة غوائلها الكثيرة ، فقال ما نصه ( ص212 ) : " جلت حكمة الله في أمر هذا الدين ، سلسبيل حياة نبع في القفار العربية ، أبعد بلاد الله عن المدنية ، فاض حتى شملها فجمع شملها فأحياها حياة شعبية ملية ، علا مده حتى
[ ص: 274 ] استغرق ممالك كانت تفاخر أهل السماء في رفعتها ، وتعلو أهل الأرض بمدنيتها ، زلزل هديره على لينه ما كان استحجر من الأرواح فانشقت عن مكنون سر الحياة فيها .
" قالوا : كان لا يخلو من غلب ( بالتحريك ) . قلنا : تلك سنة الله في الخلق ، لا تزال المصارعة بين الحق والباطل ، والرشد والغي قائمة في هذا العالم إلى أن يقضي الله قضاءه فيه .
" إذ ساق الله ربيعا إلى أرض جدبة ليحيي ميتها ، وينقع غلتها ، وينمي الخصب فيها ، أفينقص من قدره إن أتى في طريقه على عقبة فعلاها ، أو بيت رفيع العماد فهوى به ؟ اهـ " .
هذا بعض ما بينه الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى في الحرب والقتال من الوجهة الدينية الإسلامية ، ثم من الوجهة الاجتماعية ، ومذهب جماهير الفقهاء كلها أن هذا
الجهاد والقتال لدفع الاعتداء الذي يقع على الدين أو الوطن فرض عين ، وتوافقهم عليه جميع شرائع أمم الإفرنج كلها ، ويعذرون كل أمة فقد من وطنها شيء ، إذا هي ظنت تستعد لاستعادته إلى أن تظهر بذلك كما فعلت
فرنسة باستعادة ولايتي
الألزاس واللورين من
ألمانيا في الحرب الأخيرة ، وكانت انتزعتهما منها منذ نصف قرن ونيف وربت أهلهما تربية ألمانية ، وفي أهلهما كثيرون من العرق الألماني ، ويقال : إن السواد الأعظم من سكانها الآن يفضل أن يكون تابعا للدولة الألمانية ولكنه مقهور مغلوب على أمره .
ولما كان تفسيرنا هذا تفسيرا علميا عمليا أثريا عصريا وجب علينا في هذا المقام أن نبين حال مسلمي عصرنا فيه مع مغتصبي بلادهم ، والجانين على دينهم ودنياهم ; ليكون أهل البصيرة والعلم من الفريقين على بينة من التنازع والتخاصم الواقع بينهما فيجدوا له صلحا معتدلا إن أمكن الصلح بالاختيار ، فإن لم يفعلوا فلينتظروا حكم الأقدار ، فيما لسنن الاجتماع من الأطوار ،
وتلك الأيام نداولها بين الناس ( 3 : 140 ) .