( 3 )
محافظة الكنيسة على عقائدها وتأويلات المخالفين لها .
إننا نعتقد بما تيسر لنا من البحث والاختبار الطويل أن علماء الشعوب الأوربية ومستقلي الفكر فيهم ، لا يؤمنون بعقائد الكنيسة التي أشرنا إليها في هذا السؤال ، وفي المسألة الثانية من قضايا الجواب عنه ، ولا بأن جميع ما في كتب العهدين القديم والجديد ولا أكثره حق موحى به من الله عز وجل ، بل نعلم أن كثيرا منهم قد اهتدى بعقله واستقلال فكره إلى ما يقرب من إصلاح الإسلام للنصرانية التقليدية ، وهو أن
المسيح بشر مخلوق ، ونبي رسول لا إله خالق ، بل حدثني رجل كان من كبار رجال الدين الكاثوليكي فجهر بما يعتقده مما يخالف تعاليمهم فحرمه الرئيس الأكبر منها - حدثني بأن رؤساء الكنيسة أنفسهم الذين أدركوا حقائق العلوم لا يعتقدون ألوهية
المسيح ، ولا التثليث ، ولا الاستحالة في العشاء الرباني ، بل يعلمون أنها دخيلة في دين
المسيح ، ولكنهم يرون أنهم إذا صرحوا بهذا تبطل ثقة
النصارى بالدين من أصله ، فيتعذر على رجال الكنيسة بسقوط رياستها حملهم على الأصول الصحيحة من الدين ، وهي الفضائل والآداب وتقوى الله الصادة عن الشرور والرذائل .
هذا وإن لكبار الأذكياء منهم تأويلات يتفصون بها من منكرات تلك الكتب والتقاليد
[ ص: 305 ] كتأويل عاهل الألمان الأخير (
غليوم الثاني ) بعد عثور علماء قومه على شريعة
حمورابي في
العراق ، وقولهم : إن جل شريعة التوراة مأخوذة عنها ، فإنه كتب كتابا لصديق له في كون هذا الأمر لا ينقض دينهم المبني على أساس التوراة أي كتب العهد القديم ; لأنه مبني على ما يسمونه الروح الذي فيها لا على نصوصها وتشريعها ، وقد قال في آخر ذلك الكتاب :
ومن البديهي عندي أن التوراة تحتوي على عدة فصول تاريخية هي من البشر لا من وحي الله ، ومن ذلك الفصل الذي ورد فيه أن الله أعطى
موسى على جبل سيناء شريعة بني إسرائيل ، فإنني أعتقد أنه لا يمكن اعتبار تلك الشريعة موحى بها من الله إلا اعتبارا شعريا رمزيا ; لأن موسى قد نقل تلك الشرائع عن شرائع أقدم منها على الأرجح ، وربما كان أصلها مأخوذا من شرائع حمورابي ، ويوشك أن يجد المؤرخ اتصالا بين شرائع حمورابي صاحب إبراهيم الخليل ، وبين شرائع
بني إسرائيل باللفظ والفحوى ، وذلك لا يمنع قطعيا من الاعتقاد بوحي الله
لموسى ، وظهوره
لبني إسرائيل بواسطته " ثم قال : وإنني أستنتج مما تقدم ما يأتي :
( 1 ) أنني أؤمن بإله واحد . ( 2 ) أننا معشر الرجال نحتاج في معرفة هذا الإله العظيم إلى شيء يمثل إرادته ، وأولادنا أشد احتياجا منا إلى ذلك .
( 3 ) أن الشيء الذي يمثل إرادة الله عندنا هو التوراة التي وصلت إلينا بالتقليد ، وإذا فندت المكشوفات الأثرية بعض رواياتها ، وذهبت بشيء من رونق الشعب المختار -
شعب إسرائيل - فلا ضير في ذلك ; لأن روح التوراة يبقى سليما ، مهما يطرأ على ظاهرها من الاعتلال والاختلال ، وهذا الروح هو الله وأعماله .
إن الدين لم يكن من مستحدثات العلم ، فيختلف باختلاف العلم والتاريخ ، وإنما هو فيضان من قلب الإنسان ووجدانه بما له من الصلة بالله " هـ .
وأما مسألة
المسيح ، فإنه فسرها قبل ذلك في كتابه المذكور بأن الله تعالى يظهر دائما في الجنس البشري الذي هو خليفته وصنيعته بما نفخ فيه من روحه ( قال ) : أعني أنه منحه شيئا من ذاته إذ أعطاه نفسا حية ، وإن ظهوره هذا قد يكون في كاهن ، وقد يكون في ملك ، سواء كان من الوثنيين أو
اليهود أو
النصارى ، وقد كان
حمورابي من هؤلاء الرجال كما كان
موسى وإبراهيم وهو ميروس وشارلمان ولوثر وشكسبير وجوت وقنت ( أوكونت )
والإمبراطور غليوم الكبير ( يعني جده ) . . . . ثم ذكر أن ظهور الله في
[ ص: 306 ] الأشخاص يكون على حسب استعداد أممهم ودرجاتها في الحضارة ، وأنه لا يزال يظهر إلى عصرنا هذا ( يعني في شخصه ) .
فبمثل هذه التأويلات والآراء يدين أهل العقل والعلم في
أوربة لا بدين الكنيسة كما يزعم دعاة
النصرانية ( المبشرون ) الكذابون الخداعون ليغشوا عوام المسلمين بعظمة
الإفرنج الدنيوية ، وبتسميتهم حضارة
أوربة مسيحية .
وقد كان للفيلسوف
تولستوي الروسي الشهير تأويل للإنجيل قريب مما قلناه في بيان حقيقته بهداية الإسلام ، وخلاصته أن إنجيل
المسيح الصحيح هو عبارة عن حكمه ومواعظه التي كانت جواهر ألقيت في مزابل من الخرافات والأوهام ، وإنه هو قد عني باستخراجها وتنظيفها مما علق بها ، وشبهها بتمثال مكسر ملقى فيها ، فعثر هو عليه قطعة بعد أخرى حتى إذا تم وكمل ، علم أن عمله حق صحيح ، وألف في ذلك كتابا كبيرا سماه الأناجيل ، وسمى ما استخلصه منها الإنجيل الصحيح ، وقد سبق لنا تلخيص مقدمته التي بين فيها ما حققه في الموضوع ( ص131 و 226 و 259 م 6 منار ) .
ومما قاله فيها : " إن القارئ لا ينبغي له أن ينسى أن من الخطأ الفاحش والكذب الصراح أن يقال : إن الأناجيل الأربعة هي كتب مقدسة في جميع آياتها " وأيد ذلك بما هو مسلم عندهم من " أن
المسيح لم يؤلف كتابا قط كما فعل
أفلاطون وغيره من الفلاسفة ، وأنه لم يلق تعاليمه مثل
سقراط على رجال من أهل العلم والأدب ، وإنما عرضها على قوم من الجهال قد خشنت طباعهم كان يصادفهم في طريقه " أي فلم يحفظوها ولم يكتبوها ، وفي هذه الأناجيل نصوص صريحة بأنهم لم يكونوا يفهمون كل كلام
المسيح ولا سيما أمثاله التي كان يضربها لهم .
ثم ذكر
تولستوي أنه جاء بعده بزهاء مائة عام رجال أدركوا مكانة كلماته فخطر في بالهم أن يدونوها بالكتابة ، فكانت مدوناتهم كثيرة ، ومنها ما كان محشوا بالخطأ والغلط ، وأن الكنيسة اختارت بعد ذلك من ألوف المصنفات ما رأته أقرب إلى الكمال " وأن الغلط في الأناجيل القانونية هو بقدر الغلط في الأناجيل المهملة لاعتبارها محلا للشك والارتياب ، وأن هذه الأناجيل المتروكة تشتمل أشياء جميلة ، قد تعادل ما تضمنته الأناجيل الرسمية " إلخ ومما حققه في هذه المقدمة أن دين
المسيح الصحيح أجنبي عن العقيدة العبرانية ، وعقيدة الكنائس النصرانية وأن
بولس لم يفهم دين
المسيح ألبتة .
فهذه نصرانية هذا الفيلسوف الكبير ، وتلك عقيدة ذلك العاهل الكبير ، وما أتعب الأول في التفكير ، والآخر في التأويل ، إلا سلطان الدين الفطري على النفس ، ومشاقة
[ ص: 307 ] الدين الكنيسي للعقل والعلم ، ولو أنهما اطلعا على حكم القرآن في أمر التوراة والإنجيل
والمسيح وكونه من روح الله وآية من آياته ، وأن معنى كونه كلمة الله ، أنه وجد بكلمة التكوين " كن " - لكان هذا وحده برهانا كافيا لاهتدائهما بالإسلام ، واتباعهما
لمحمد عليه الصلاة والسلام ، فكيف لو اطلعا على غير ذلك من الحقائق والحكم والأحكام ، على أن القليل الذي بلغهما منه قد أنطقهما بما يدلان على إكباره ، فللفيلسوف رسالة جليلة في ( حكم
محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ . وللإمبراطور كلمة قالها
nindex.php?page=showalam&ids=17169لموسى الكاظم شيخ الإسلام في
الآستانة إذ زارها في أيام الحرب الكبرى تغني عن مؤلف كبير وهي : فسروا القرآن التفسير الذي تظهر فيه علويته . . . فهو قد علم أنه علوي لا أرضي ، بل هو الحق الذي يعلو ولا يعلى ، والذي يحطم ما دونه .