( 6 )
آراء الإفرنج وأمثالهم في الدين والتدين :
للمتدينين من
الإفرنج ومن على شاكلتهم في العلم والفلسفة والسياسة
كاليابانيين والهندوس وغيرهم آراء في الدين ، تصرف أكثرهم عن النظر والتأمل فيه بمثل النظر في المسائل العلمية الذي يراد به استبانة الصحيح الراجح أو الأرجح لأجل اعتماده والأخذ به ، فأكثرهم يرى أن الدين تعاليم أدبية تهذيبية من ناحية ، ورابطة اجتماعية سياسية من ناحية أخرى ، وأن فائدته من الناحيتين تكون بقدر حسن تلقينه وتعليمه والبراعة في تربية النشء عليه - لا بقدر صحة عقائده ومصادره في نظر العقل - وجودة آدابه وأحكامه في نفسها أو بالإضافة إلى غيرها
[ ص: 310 ] فهم لا يبحثون عن أقوى الأديان حججا ، وأقومها منهجا ليعتصموا بحبله ، ويدعوا قومهم للاهتداء به .
ومنهم من يرى أن محاولة تحويل الشعب عن دين وراثي تلقاه بالإذعان والقبول إلى دين آخر أصح برهانا منه لا يخلو من مضار ، منها الخلاف والشقاق في الشعب وضعف ارتباطه بأمته ودولته ، فهم يجتهدون في صيانة عقائد شعبهم ، ودفع الاعتراضات التي ترد عليها لأجل ذلك .
وأما الأحرار المستقلون الذين لا ينظرون إلى هذه الاعتبارات السياسية والاجتماعية فيرون أن مسألة العقائد مسألة وجدانية شخصية لا يثبتها العلم العصري المبني على الحس والتجربة ، فالصواب لمن قام الدليل عنده على حقية شيء منها أن يدين الله تعالى به في نفسه ، ولا يعرض لغيره بدعوة إليه ، ولا تخطئة له فيما يدين به ; لأن ذلك ينافي الحرية المشتركة ، ولكن هذه الحرية لا تكاد تخلص من دخائل التقاليد الدينية ، وتسلم من الشوائب الاجتماعية والسياسية إلا للأفراد من كل شعب ، وشرح هذا بالتفصيل يخرج بنا عن الغرض من هذا الاستطراد الذي يجب أن نقتصر منه على ما يختص بالعبرة من سياق موضوعنا في التفسير ، وهو أن علاقة الدين بالسياسة والاجتماع وقوة الشعب الأدبية ومحافظته على مقوماته ومشخصاته الملية تحول دون البحث عن حقيقة أقوم الأديان وأحقها بالتقديم والإيثار للاهتداء به . ويستعان على هذه الحيلولة بنظام التربية والتعليم الذي بلغ الغاية من النظام ، ولكن أطوار الاجتماع ستضطرهم إلى هذا البحث واختيار الأصلح بذاته .
ولا بد لنا مع هذا التذكير بما بيناه قبل ، من أن الدين لا يكون دينا تتحقق به هداية من يؤمن به إلا إذا كان مصدره أعلى من جميع مصادر العلم الكسبي ، لتذعن له النفس ، وتخضع الإرادة ، وقد وضع بعض حكماء
أوربة قواعد لدين علمي عقلي استحسنوها ولم يذعنوا لها ; لأن الإنسان لا يذعن إلا لما يعتقد أنه أعلى منه وله السلطان والقهر عليه ، وكل ما يدركه بكسبه فهو يراه دونه ومقهورا لإرادته ; لذلك لا يخضع البشر لكل ما يعتقدون أنه صواب وحق في نفسه ، إلا إذا وافق أهواءهم كما هو معلوم بالقطع من سيرة أفرادهم وجماعاتهم على اختلاف أنواعها ، والاختلاف من طبعها ، فالدين الذي لا بد منه لإصلاح البشر لا يكون إلا بوحي من عالم الغيب ، ولا يثبت هذا في عصرنا هذا إلا بالإسلام .