( 7 ) مبلغ
علم الإفرنج بالإسلام وحكمهم عليه :
بزغت شمس الإسلام في عصر كانت فيه جميع شعوب الأرض متسكعة في دياجير الجهل والظلم والإسراف في الشهوات الحيوانية ، وكان آخر عهد
لأوربة بالعلم والأدب والحضارة
[ ص: 311 ] عهد
الروم (
الرومان ) الذين فتحوا أعظم ممالك الشرق المصاقبة
لأوربة ، وكانوا قوما وثنيين ، ثم سطع عليهم بريق من نور الإنجيل ، وانتشرت فيهم النصرانية ديانة الزهد والإيثار والسلام ، ولكن كان إفسادهم لها أقوى من إصلاحها لهم ، فأحالوا توحيدها وثنية . وحولوا سلمها حربا ، وبدلوا زهدها إسرافا وطمعا ، وطهارتها فحشا ودنسا ، فلما جاء النبي الذي كانوا ينتظرونه وهو المصلح الأعظم ، الذي بشر به
المسيح وسماه الفارقليط روح الحق ، ووعدهم بأنه سيعلمهم كل شيء ، لم يلبث الحفاة العراة البائسون من أتباعه أن دكوا لهم ما بنوه من المعاقل والحصون في الشرق ، وثلوا لهم عروش ما استعمروا من الممالك وطردوهم من سورية
ومصر وأفريقية ، فأرزوا وانكمشوا إلى أوطانهم الأصلية في
أوربة فصار العرب المسلمون من أتباع
محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يغزونهم وغيرهم في
أوربة نفسها وتلاهم
الترك المسلمون في ذلك ، فصبروا إلى أن أمكنهم جمع كلمة دول
أوربة على قتال المسلمين في هذه الممالك الشرقية بالدعاية إلى إنقاذ
بيت المقدس مهد النصرانية منهم ، فكانت الحروب الصليبية المشهورة في التاريخ بفظائعها وفجورها ومفاسدها وفواحشها ومطامعها ، التي اقترفت باسم
المسيحية الطاهرة البريئة منه ومن أهلها .
كان من تمهيد رجال الكنيسة دعاة هذه الحرب وموقدي نارها أن ألفوا كتبا ورسائل كثيرة ، وزوروا خطبا بليغة ، ونظموا أناشيد وأغاني مهيجة كلها في الطعن على الإسلام ، وتشويه سيرة المسلمين ، لم يعرف في تاريخ البشر لها نظير في الكذب والبهتان ، وقلب الحقائق ، وتشويه المحاسن ، ومحاولة جعل النور ظلاما ، والحق باطلا ، والفضيلة رذيلة ، حتى إن المسلمين الذين اطلعوا على شيء من تلك المكتوبات بعد تلك الحروب بقرن ، أدهشهم العجب من تلك الأباطيل المخترعة التي لم تخطر لأحد منهم على بال ، ولم تلح لها صورة في خيال ، لمباينتها للقرآن المنزل والسنة المطهرة والسيرة النبوية ، والفتوحات العربية ، رحمة وعدلا ، وكرما وفضلا ، وشرفا ونبلا ، وكذا ما دونها من الحروب الإسلامية .
ومن غرائب ذلك البهتان المشوه أنهم جعلوا بين دين التوحيد المطلق المجرد من جميع أوهام الوثنية دين وثنية وعبادة أصنام - وأنهم اختلقوا له " ثالوثا " وأصناما وزعموا أن "
محمدا نفسه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ادعى الألوهية ، واخترعوا له من المطاعن الفظيعة ما تعجز غير تلك العقول المظلمة القذرة عن تخيله ، ويتنزه كل ذي وجدان بشري سليم عن افترائه ، ويستحي غير الشيطان الرجيم من النطق به أو كتابته ، ومن ليس له إلمام من المسلمين أو غيرهم بشيء من ذلك فلينظر في ( كتاب الإسلام . خواطر وسوانح ) للمستشرق الفرنسي (
الكونت هنري دي كاستري ) وترجمته العربية
لأحمد فتحي باشا زغلول ، وحسبه الفصل الأول منه
[ ص: 312 ] في هذا الموضوع فقد ذكر فيه أسماء بعض تلك الكتب التي لفقوها ، والأناشيد والأغاني التي نظموها فيما ذكر ، لتهييج المسيحيين على الزحف من
أوربة إلى الشرق ; لإبادة المسلمين والقضاء على دينهم ، وكانت كل تلك المفتريات التي تقشعر منها الجلود ، ويكاد يتصدع لتصورها الحجر الجلمود ، تتلقى بالقبول والإذعان من جماهير الشعوب الأوربية لصدورها عن رجال الكنيسة المعصومة عندهم ، ولا تزال سمومها تسري في أرواح الملايين من نابتتهم بما ينفثه فيها القسيسون المربون ، وما يكتبه وينشره المبشرون ، كما بينه
اللورد هدلي الإنكليزي - بعد إسلامه - في كتاب مستقل ترجم بالعربية ، ولا نزال نرى في كل سنة من مفترياتهم
بمصر وغيرها ما نجزم بأن الذين يدونونه في الكتب يعلمون أنه كذب وبهتان ، ونستدل بهذا على أنهم لا يدينون بالنصرانية نفسها ; لاستحالة إباحتها للكذب الذي هو شر الرذائل كلها .
زحفت الشعوب الأوربية على
سورية وفلسطين ومصر لإبادة المسلمين ، واقترفوا فيها باسم
المسيح مثال الكمال والطهارة والفضيلة والزهد والرحمة من النقائص والأرجاس والرذائل والأطماع والقسوة ، ما لم يتدنس بمثله شعب من شعوب الوثنية ولا القبائل الهمجية في تاريخ البشر ، ثم عادوا من الشرق مخذولين . مغلوبين مقهورين ، ولكنهم استفادوا من معرفة حال المسلمين من العلم والفضائل والعدل ما كان هو السبب لنهضة
أوربة الأخيرة في العلوم والفنون والسياسة . يعترف بذلك فلاسفة الاجتماع والتاريخ منهم ، وأما رجال السياسة ودعاة النصرانية فلا يزالون يفترون على المسلمين في دينهم ودنياهم ، ولا تزال سياسة
أوربة مع المسلمين حربا صليبية إلى اليوم .
أليس هذا الذي ذكرناه بالإيجاز سببا كافيا لجهل السواد الأعظم من شعوب
أوربة بحقيقة الإسلام . وكتمان كثير من العارفين لما يعرفونه منه ، وتشويه رجال السياسة والدعاية الدينية له ، ومحاولة طمس نوره كلما لاح لهم شيء منه ؟ بلى ، وإنهم ليجدون من سيرة المسلمين الجغرافيين والخرافيين في هذا العصر ما يجعلونه حجة على الطعن في الإسلام نفسه ، بدعوى أن سوء حالهم ما جاءتهم إلا من تعاليم دينهم ، والحق أنها ما جاءتهم إلا من جهلهم له ، وتركهم لهدايته ، وإنهم ليجدون من الملاحدة الذين أفسدهم التفرنج ، ومن المنافقين والفاسقين عن دينهم من يشايعهم أو يؤيدهم في مطاعنهم .
زد على هذا سببا ثالثا ، وهو فشو البدع والخرافات في المسلمين ، وإقرار بعض الحكومات لها حتى الحكومة المصرية التي جعلت من أسباب مشاقتها لحكومة الحجاز بدعة المحمل ، والتي تأذن باحتفالات الموالد وأمثالها في المساجد ، أضف إلى هذا سببا رابعا هو علة لما قبله وهو
[ ص: 313 ] ضعف رجال الدين الإسلامي أنفسهم ، وعجزهم عن إظهار حقيقة الإسلام لتلك الشعوب ، ولنابتة المسلمين العصرية أيضا بالبيان والحجج المناسبة لحال هذا العصر ، ومقاومة بعضهم للإصلاح العلمي والمدني ما استطاعوا ، ونفاق بعضهم للأجانب في البلاد التي استولوا عليها ، وهؤلاء شر آفات الإسلام ، وأعدى أعدائه ، وفتنة للذين كفروا تصدهم عنه :
ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم ( 60 : 5 ) .
هذا ملخص ما يصرف الأوربيين وأمثالهم عن معرفة الإسلام والاهتداء به .