( 8 ) الرجاء الجديد في
اهتداء الإفرنج بالإسلام :
سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ( 41 : 53 ) كان نظام التربية والتعليم الذي يتولى أمره رجال الدين في بلاد النصرانية كلها ، وحيث وجدت لهم مدارس وكنائس في غيرها - كان ولا يزال - مهيمنا على العقول والقلوب أن يتسرب إليها شيء يخالف عقيدتهم ، فإن علموا شيئا منها نفذ إليها بادروا إلى نزعه وإزالة تأثيره ، كما يبادر الأطباء إلى معالجة من يصاب بمرض معد أو جرح خطر .
بيد أن حرية الفكر ، وحب العلم اللذين تغلغلا في
أوربة بعد الحروب الصليبية قاوما هذه السيطرة الكنيسية ، فوجد تعليم حر ، وتفكير حر ، وتصنيف حر ، ولكن التربية الحرة لا تزال قليلة وضعيفة بما للتأثير السياسي والديني من القوة والسلطان .
أعقبت هذه الحريات وما اقتضاه الأخصاء في فروع العلوم والمعارف ، من عناية بعض العلماء بدراسة الكتب الإسلامية ، وكان مما أثمرته سياحة العلماء من قبلها في بلاد الإسلام ، أن اطلع الأفراد بعد الأفراد من كل شعب من شعوب
الإفرنج على كتب الإسلام الصحيحة ، وترجموا كثيرا من مؤلفاتهم العلمية ، وشاهدوا عبادات المسلمين ، وأحاطوا علما بتاريخهم وسمح اتساع حرية العلم لمستقلي الفكر منهم أن يصرحوا قولا وكتابة بما علموا من ذلك ، فشهد الكثيرون من علماء القرن الماضي والحاضر بأن عقيدة الإسلام أكمل عقائد التوحيد والتنزيه التي يتقبلها العقل السليم بالتسليم ، وأن عباداته موافقة للفطرة البشرية ، وأن أحكامه عادلة ، وقد ألفوا في ذلك كتبا كثيرة فندوا فيها مطاعن رجال الكنيسة على الإسلام
ومحمد خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام . وقد نشرنا بعض هذه الشهادات في مواضع كثيرة من المنار ، من أهمها ما جاء في المجلد الخامس ( مقالات الإسلام والنصرانية ) للأستاذ الإمام رحمه الله تعالى ، وقد جمعت في كتاب مستقل . ومنها كتاب الدعوة الإسلامية للأستاذ
أرنولد الإنكليزي . وقد كتب فيلسوف التاريخ والاجتماع
غوستاف لوبون الفرنسي رقعة بريدية لأديب تركي بعد الحرب الكبرى قال فيها: إنه ألف كتابا كبيرا في ( حضارة العرب ) ; ليثبت لقومه أن العرب المسلمين أساتذة
أوربة كلها في مدنيتها الحاضرة وعلومها . ( قال ) : ولكن التربية الإكليركية
[ ص: 314 ] ( الكاثوليكية ) المسيطرة على أكثر الشعب حالت دون علمه وإذعانه لذلك اهـ . ولا نزال ننشر بعض هذه الشهادات ، وكان آخرها ما نشرناه في هذا العام ( 1348 هـ ) من مقدمة ترجمة القرآن للعالم السويسري (
مسيو مونتيه ) الذي أظهر فيها تعجبه من إيمان نصارى
أوربة بأنبياء
بني إسرائيل ، وعدم إيمانهم
بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذكر من خبر نبوته ما هو خلاصة لما ورد في كتب الحديث الصحيحة والسيرة النبوية .
وإنما عثرت أفكار بعضهم ببعض المسائل التي عثرت فيها أقلام علماء المسلمين من المتكلمين والفقهاء كمسألة القضاء والقدر ، فلم يوفقوا لفهمها ولا لبيانها كما يجب ، وأنكر كثير منهم بعض المسائل المخالفة لتقاليدهم وعاداتهم وتربيتهم كالطلاق وتعدد الزوجات ، وهي في الإسلام من مسائل الضرورات ، ثم قبلت جميع شعوبهم وحكوماتهم حكم الطلاق ، وأفرطوا فيه بما لا يبيحه الإسلام ، ولولا فشو الزنا في بلادهم لاضطروا إلى قبول تعدد الزوجات أيضا ، ولا سيما أهل
أوربة الذين اغتالت حرب المدنية الأخيرة زهاء عشرين مليونا من رجالهم .
وتصدى بعض المسلمين في هذا القرن للدعوة إلى الإسلام في بلاد
الإنكليز ، ثم في غيرها فأسلم بعض الناس بدعوتهم ، على أن الدعوة إلى الإسلام لا تزال ضعيفة بضعف علم أكثر دعاتها ، وابتداع في بعض
الهنود منهم ، وكما أسلم آخرون منهم باطلاعهم على ترجمة القرآن الحكيم بلغاتهم على كثرة ما في هذه التراجم من الخطأ والغلط ، كما أن كثيرا من نصارى الشرق يسلمون في كل عام ، ولكن بعض الوجهاء منهم وأصحاب العلاقات المادية والاجتماعية بعشائرهم وعشرائهم يكتمون إسلامهم ، ويخفون عباداتهم الإسلامية عنهم ، وقد اعترف لي واحد منهم ممن يلبسون ( البرنيطة ) بإسلامه بعد معاشرة طويلة كان يسألني فيها سؤال المستفيد عن بعض المسائل الدينية ، ويتلقى أجوبتي بالارتياح - ولكنه اشترط علي كتمان خبره .
وكان رئيس من رؤساء الإدارة ( قائمقام ) في لبنان صديقا لوالدي ، وكان يزورنا فيكثر من هذه الأسئلة ، ثم مرض فعاده والدي بداره في مركز عمله فخلا به ، فاعترف له في هذه الخلوة بإسلامه واضطراره لكتمانه عدة سنين ، ثم قال : وإنني أشعر الآن بقرب الأجل فأشهدك على أنني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن
محمدا رسول الله ، وعلى هذه الشهادة أموت . ولو كان للإسلام دولة قوية عزيزة تحيي حضارته ، وتقيم شريعته لرأينا الناس من جميع الشعوب يدخلون فيه أفواجا .
هذا وإن الذين يعاشرون علماء المسلمين - الذين يعرفون الإسلام الصحيح ويقدرون على بيانه - من عقلاء
الإفرنج المستقلي الفكر يعجبون مما يسمعونه منهم ، حتى ليشك أكثرهم في أنه هو الإسلام الذي جاء به
محمد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .
[ ص: 315 ] أذكر أنه قال لي
اسكندر كاستفليس زعيم نصارى
طرابلس الشام في عهده - وكان قنصلا لروسية وألمانية فيها - بمناسبة مذاكرة بيني وبينه بداره وكنت تلميذا : إن عندكم من الفضائل مثل الجبال ولكنكم دفنتموها وأخفيتموها بسيرتكم ، وعندنا شيء قليل مددناه وكبرناه حتى ملأ الأرض ، مثل ما ورد في الإنجيل من " حب الله والقريب " .
وذكرت في مواضع من المنار أنني عاشرت رجلا من خيار
الإنكليز الذين تقلدوا بعض أعمال الحكومة
بمصر ، فكنت كلما ذكرت له شيئا من حقيقة الإسلام يتعجب ويقول: إنه هو يعتقد هذا ، أو هذا فلسفة لا دين ، وأنه قال لي مرة إن كان ما تقوله هو الإسلام حقيقة فأنا مسلم ، وقال مرة أخرى مازحا : إما أن أكون أنا مسلما ، وإما أن تكون أنت كافرا ! ! وفسر هذه بكلمة ثالثة قالها في مجلس آخر خلاصتها : إذا سألنا علماء الأزهر عما تقوله أنت
والشيخ محمد عبده في الإسلام فوافقوا عليه فأنا أعلن إسلامي ، ولكن أرى أنكما أوتيتما من العلم الفلسفة العالية في الدين ما لا ينكره عالم عاقل ، فأنتما تسندانه إلى الإسلام ، وما عليه المسلمون من الإسلام يباينه . قلت له : إنني مستعد لإثبات كل ما أقوله لك في الإسلام بآيات القرآن ، وكنا نتكلم في مسألة فاستدللت عليها بآية من سورة الروم ، ودللته عليها في ترجمة القرآن الإنكليزية ، ولكنه لم يصدق أن كل ما أقوله له كذلك .
ونشرت في المنار شهادة
لورد كرومر بنجاح الإسلام في عقائده القائمة على أساس التوحيد ، ونظامه المدني وعدله ، ثم نشرت شهادة
لورد كتشنر لشريعة الإسلام بالعدل ، وبأنها خير للمسلمين من قوانين
أوربة نشرت هاتين الشهادتين في أيام حياة اللوردين فكانتا مثار العجب لبعض الناس ; لأن رجال السياسة قلما يصرحون بمثل هذه الشهادة للإسلام وهم خصوم أهله .
وفي هذه الأيام حدثني تاجر مسلم مقيم في مدينة
مانشستر الإنكليزية أنه حضر وعظ قسيس من
الإنكليز الموحدين في كنيسته فكان من وعظه إثبات فضائل
محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ والرد على مفتريات المبشرين وأمثالهم عليه ، ومنها زعمهم أنه كان شهوانيا همه في التمتع بالنساء . قال القس : إن من كان كذلك يحتقره جميع الناس ، ولا يمكنه أن يؤثر تأثيرا صالحا في قلوب الألوف والملايين من الناس ، فكيف أمكن
لمحمد إذا أن يهدي هذه الأمة العظيمة ، وتنتشر في هدايته في الشعوب الكثيرة ؟ ثم إنه صلى بالناس ، وقرأ في صلاته شيئا من ترجمة القرآن .
[ ص: 316 ] الخلاصة : أن الإسلام هو الخلاصة الصحيحة لدين الله الحق على ألسنة أنبيائه عليهم السلام ، الذين لم يحفظ كتاب من كتبهم كله كما بلغوه لأقوامهم ، وما في أيديهم منها ينافي مصالحهم كتشديدات التوراة في أمور المعيشة والحرب ، وأثرة
بني إسرائيل على البشر ، وتشديد الأناجيل في الزهد وترك الدنيا . وقد نسخ الله بالإسلام جل ما جاءوا به ; لأنه كان خاصا بشعوبهم في أزمنتها ، وزاد عليها ما أكملها به على لسان خاتمهم
محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ مبينا إياها أكمل البيان ، مؤيدا بأوضح البرهان ، مع أصول التشريع العام الموافق لمصالح البشر في كل زمان ومكان ، وكان من براهين صحته ظهور هذه العلوم والحقائق على لسان رجل أمي لم يقرأ ولم يكتب ، ولم يعاشر المتعلمين العارفين بالكتب السابقة . ومن معجزات كتابه الخالدة - وراء إعجازه للبشر بعلومه وتشريعه وإخباره عن الغيب وببلاغته وأسلوبه الذي يعلو جميع كلام البشر - أن ما وصل إليه علم البشر من العلوم والحقائق السماوية والأرضية لم ينقض شيئا منه .
فلا وسيلة لإنقاذ العالم المدني العصري مما انتهى إليه من المفاسد المادية ، والفوضى الدينية والأدبية ، وتعارض المذاهب الرأسمالية والشيوعية ، إلا بهذا الدين الوسط كما يعترف الذين عرفوه في الجملة حتى من الماديين ، وقد قوي استعداد الشعوب الأوربية للاهتداء به إذا أمكن بيانه لهم كما أنزله الله تعالى ، وبينه رسوله الأعظم بسنته المتبعة التي كان عليها أهل العصر الأول سليمة من البدع والآراء المذهبية ، والخرافات التصوفية ، وكان حكيما الإسلام السيد
جمال الدين والشيخ محمد عبده يعتقدان أن مآل
الإفرنج إلى الإسلام ، إسلام القرآن لا إسلام مسلمي هذا العصر ، وكثير ممن قبلهم ، وأنه ربما آل الأمر إلى أخذ الشعوب الإسلامية - بالوراثة دون العلم والحكمة - إلى أخذ الإسلام عنهم .
وها نحن أولاء نرى كثيرا من المسلمين يأخذون علوم الإسلام عن
المستشرقين من
الإفرنج ، وبدءوا يقلدون دولة الولايات المتحدة في أمريكة بالدعوة إلى ترك شرب الخمر .
إن
الإفرنج ولا سيما أولي التربية الحرة الاستقلالية منهم يقربون من الإسلام يوما بعد يوم ، وإنما يرجى اهتداؤهم به في أقرب وقت بتأليف جمعية غنية ; لنشر دعايته في
أوربة وأمريكة ، وهذا ما كنا شرعنا فيه منذ بضع عشرة سنة ، إذ أنشأنا جمعية الدعوة والإرشاد ، ومدرسة الدعوة والإرشاد لها ، وكنا قد وفقنا لتقرير وزارة الأوقاف الإسلامية
بمصر للنفقة على المدرسة ، ولكن الدسائس الأجنبية فازت بحمل وزارة الأوقاف على إلغاء هذه الإعانة في زمن
[ ص: 317 ] الحرب الكبرى ، ولم يوجد من أغنياء المسلمين الأغنياء السفهاء ، ولا من أمرائهم المسرفين المتكبرين من يقوم بها ، ونحمد الله تعالى أن لاح في مهد الإسلام نور جديد لإحياء هذا الدين هو الآن محمل الرجاء لجميع عقلاء المسلمين المصلحين
ولتعلمن نبأه بعد حين ( 38 : 88 ) .