إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة واعلموا أن الله مع المتقين إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم والله لا يهدي القوم الكافرين [ ص: 357 ] هاتان الآيتان عود إلى الكلام في أحوال المشركين ، وما يشرع من معاملتهم بعد الفتح ، وسقوط عصبية الشرك ، وكان الكلام في قتال
أهل الكتاب ، وما يجب أن ينتهي به من إعطاء الجزية من قبيل الاستطراد ، اقتضاه ما ذكر قبله من أحكام قتال المشركين ومعاملتهم . وقد ختم الكلام في
أهل الكتاب ببيان حال كثير من رجال الدين الذين أفسدت عليهم دينهم المطامع المالية ، التي هي وسيلة العظمة الدنيوية ، والشهوات الحيوانية ، وإنذار من كانت هذه حالهم بالعذاب الشديد يوم القيامة ، وجعل هذا الإنذار موجها إلينا وإليهم جميعا . ومن ثم كان التناسب بين الكلام فيما يشترك فيه المسلمون مع
أهل الكتاب من الوعيد على أكل أموال الناس بالباطل وكنز النقدين ، إلى ما يجب أن يخالفوا فيه المشركين من إبطال النسيء ، ومن أحكام القتال - تناسبا ظاهرا قويا ، وهنالك مناسبة دقيقة بين حساب الشهور القمرية عند العرب ، وحساب الشهور الشمسية عند
أهل الكتاب ، وإن لم يصرح فيه بمخالفتهم في حسابهم ، قال تعالى :
إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض .
المراد الشهور التي تتألف منها السنة القمرية وواحدها شهر ، وهو اسم للهلال أو القمر من مادة الشهرة ، ثم سميت به الأيام من أول ظهور الهلال إلى سراره ، ومبلغ عدتها اثنا عشر شهرا فيما كتبه الله ، وأثبته من نظام سير القمر وتقديره منازل ،
يوم خلق السماوات والأرض على هذا الوضع المعروف لنا من ليل ونهار إلى الآن ، والمراد بيوم خلق السماوات والأرض : الوقت الذي خلقهما فيه باعتباره تمامه ونهايته في جملته ، وهو ستة أيام من أيام التكوين باعتبار تفصيله وخلق كل منهما وما فيهما .
فالكتاب يطلق على نظام الخلق والتقدير والسنن الإلهية فيه ؛ لأنه ثابت كالشيء المكتوب المحفوظ الذي لا ينسى ، أو لأنه تعالى كتب كل نظام عن خلقه في كتاب عنده في عالم الغيب يسمى اللوح المحفوظ ، وقد فسر به الكتاب هنا . قال تعالى حكاية عن
موسى في جوابه لفرعون على سؤاله عن القرون الخالية :
قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى ( 20 : 52 ) وقال :
لكل أجل كتاب ( 13 : 38 ) وقال :
كتب في قلوبهم الإيمان ( 58 : 22 ) وقال :
ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء ( 59 : 3 ) وهذا كله بمعنى النظام الإلهي القدري . وتقدم بحث كتابة المقادير في تفسير سورة الأنعام . وقيل : إن المراد بكتاب الله هنا حكمه التشريعي لا نظامه التقديري ، ومنه حرمة الأشهر الحرم ، وكون الحج أشهرا معلومات ، ومن أحكام كتاب الله التشريعية أن كل ما يتعلق بحساب الشهور والسنين كالصيام والحج وعدة المطلقات والرضاع فالمعتبر فيه الأشهر القمرية . وحكمته .
[ ص: 358 ] العامة أنها يمكن العلم بها بالرؤية البصرية للأميين ، والمتعلمين في البدو والحضر على سواء ، فلا تتوقف على وجود الرياسات الدينية ، ولا الدنيوية ، ولا تحكم الرؤساء . ومن حكمة شهر الصيام ، وأشهر الحج أنها تدور في جميع الفصول ، فتؤدى العبادة بهذا الدوران في كل أجزاء السنة ، فمن صام رمضان في ثلاثين سنة يكون قد صام في كل أجزاء السنة ، ومنها ما يشق الصيام فيه وما يسهل ، وكذلك تكرار الحج ، وفيه حكمة أخرى في شأن الذين يسافرون له في جميع أقطار الأرض التي تختلف فصولها ، وأيام الحر ، والبرد فيها ، وإطلاق " الكتاب " بهذا المعنى معروف . ومنه قوله ـ تعالى ـ بعد سرد محرمات النكاح:
كتاب الله عليكم ، ( 4: 24 ) ، ولكن ذكر خلق السماوات والأرض أشد مناسبة للأول ، ويناسب الثاني قوله:
منها أربعة حرم ; واحدها حرام ، ( كسحب جمع سحاب ) ، وهو من الحرمة; فإن الله ـ تعالى ـ كتب وفرض احترام هذه الأشهر وتعظيمها ، وحرم
القتال فيها على لسان
إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، ونقلت العرب ذلك عنهما بالتواتر القولي والعملي ، ولكنها أخلت بالعمل اتباعا لأهوائها كما يأتي بيانه في الكلام على النسيء في الآية التالية ، وهو الغاية لما في هذه الآية . وهذه الأشهر ثلاثة منها سرد; وهي ذي القعدة ، وذي الحجة والمحرم ، وواحد فرد ، وهو رجب ، وحكمة تحريم القتال فيها وتعظيمها ستأتي .
ذلك الدين القيم ، الإشارة في قوله: ذلك لعدة الشهور ، وتقسيمها إلى حرم وغيرها ، وعدد الحرم منها ، وقيل: لما تضمنه من تحريمها ، و الدين القيم هو الصحيح المستقيم الذي لا عوج فيه . والمعنى: أن ذلك هو الحق الذي يدان الله ـ تعالى ـ به دون النسيء ، وفسر البغوي الدين القيم هنا بالحساب المستقيم ، وقال الجمهور: معناه ذلك الشرع الصحيح المستقيم الذي كان عليه
إبراهيم وإسماعيل في الحج وغيره ، مما يتعلق بالأشهر من الأحكام .
فلا تظلموا فيهن أنفسكم ، الضمير في فيهن للأربعة الحرم عند الجمهور ، وقيل: لجميع الشهور ، وظلم النفس يشمل كل محظور ، ويدخل فيه هتك حرمة الشهر الحرام دخولا أوليا ، فإن الله ـ تعالى ـ اختص بعض الأزمنة ، وبعض الأمكنة بأحكام من العبادات تستلزم ترك المحرمات فيها ، والمكروهات بالأولى ، لأجل تنشيط الأنفس على زيادة العناية بما يزكيها ، ويرفع شأنها ، فإن من طبع البشر الملل ، والسآمة من الاستمرار على حالة واحدة تشق عليها ، فجعل الله العبادات الدائمة خفيفة لا مشقة في أدائها كالصلوات الخمس ، فإن أدنى ما تصح به صلاة الفريضة لا يتجاوز خمس دقائق للرباعية منها وهي أطولها ، وما زاد فهو كمال ، وخص يوم الجمعة في الأسبوع بوجوب الاجتماع العام لصلاة ركعتين ، وسماع خطبتين في التذكير والموعظة الحسنة التي تقوي في المؤمنين حب الحق والخير ، وكره الباطل والشر ، والتعاون
[ ص: 359 ] على البر والتقوى ، وإقامة مصالح الملة والدولة ، وخص شهر رمضان بوجوب صيامه في كل سنة ، وأياما معدودات من شهر ذي الحجة بأداء مناسك الحج ، وجعل ما قبلها من أول ذي القعدة ، وما بعدها إلى آخر المحرم من الأيام التي يحرم فيها القتال; لأن السفر إلى شعائر الحج في
الحجاز ، والعودة منها تكون في هذه الأشهر الثلاثة ، كما حرم
مكة وما حولها في جميع السنة ، لتأمين الحج والعمرة التي تؤدى في كل وقت ، واحترام البيت الذي أضافه إلى نفسه ، وشرع فيه من العبادة ما لا يصح في غيره ، فكان الرجل يلقى قاتل أبيه في أرض
الحرم ، وفي غيرها من الأشهر الحرم ، فلا يعرض له بسوء على شدتهم في الثأر ، وضراوتهم بسفك الدماء ، وحرم شهر رجب في وسط السنة لتقليل شرور القتال ، وتخفيف أوزاره ، ولتسهيل السفر لأداء العمرة فيه ، ولولا اختصاصه ـ تعالى ـ لما شاء من زمان ومكان بالعبادة فيه ، لما كان للأزمنة والأمكنة في نفسها مزية في ذلك ، وأهواء الناس لا تتفق على زمن ، ولا مكان فيوكل ذلك إليهم ، فلم يبق إلا أن يجعل الله الاختصاص أمرا تعبديا خالصا يفعل لمجرد الامتثال والقربة ، كما ورد في
تقبيل الحجر الأسود من قول
عمر ـ رضي الله عنه ـ: إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ، ولولا أنني رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقبلك ما قبلتك .
وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة ; أي قاتلوهم جميعا كما يقاتلونكم جميعا ، بأن تكونوا في قتالهم إلبا واحدا لا يختلف فيه ولا يتخلف عنه أحد ، كما هو شأنهم في قتالكم ، وذلك أنهم يقاتلونكم لدينكم لا انتقاما ولا عصبية ، ولا للكسب كدأبهم في قتال قويهم لضعيفهم ، فأنتم أولى بأن تقاتلوهم لشركهم وهم بدءوكم أول مرة ، وهذا لا يقتضي فرضية القتال على كل فرد من الأفراد إلا في حال إعلان الإمام للنفير العام ، وسيأتي في هذه السورة:
وما كان المؤمنون لينفروا كافة ، وتقدم الكلام في حكم القتال في الأشهر الحرم في تفسير سورة البقرة .
واعلموا أن الله مع المتقين للظلم والعدوان والفساد في الأرض بالشرك والمعاصي ، ولأسباب الخذلان والفشل في القتال كالتنازع ، وتفرق الكلمة ، ومخالفة سنن الله ـ تعالى ـ في الاجتماع البشري ، وتقدم تفصيل القول في التقوى العامة والخاصة بالقتال في مواضعها من الآيات المناسبة لها ، والمعية هنا معية النصر والمعونة والتوفيق لما فيه المصلحة والتقوى من أسباب ذلك .
[ ص: 360 ] ومن مباحث اللفظ في الآية كلمة ( كافة ) لم ترد في التنزيل إلا منكرة منونة في أربعة مواضع : هذه الآية ، وقوله تعالى في سورة البقرة :
ادخلوا في السلم كافة ( 2 : 208 ) وفي أواخر هذه السورة :
وما كان المؤمنون لينفروا كافة ( 122 ) وفي سورة سبأ :
وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ( 34 : 28 ) وقد ظن بعض العلماء أنها لا تستعمل في العربية إلا هكذا ، وحكم بخطأ من استعملها معرفة باللام أو الإضافة ، ورد عليهم آخرون بما نفصله في الحاشية ليقرأه وحده من أراده .
[ ص: 361 ] إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله النسيء : وصف أو مصدر من نسأ الشيء ينسؤه ومنسأة إذا أخره . ويقال : أنسأه بمعنى نسأه أيضا . ففعيل بمعنى مفعول كقتيل ومقتول ، أي : الشهر الذي أنسئ تحريمه ، والمصدر كالحريق ، والسعير بمعنى النسء والإنسان نفسه ، وكانت العرب ورثت من ملة
إبراهيم وإسماعيل تحريم القتال في الأشهر الحرم ؛ لتأمين الحج وطرقه كما تقدم كما ورثوا مناسك الحج ، ولما طال عليهم الأمد غيروا وبدلوا في المناسك ، وفي تحريم الأشهر الحرم ولا سيما شهر المحرم منها ، فإنه كان يشق عليهم ترك القتال وشن الغارات ثلاثة أشهر متوالية ، فأول ما بدلوا في ذلك إحلال الشهر المحرم بالتأويل ، وهو أن ينسئوا تحريمه إلى صفر ، لتبقى الأشهر الحرم أربعة كما كانت ، وفي ذلك مخالفة للنص ولحكمة التحريم معا . وكان لهم في ذلك نظام متبع بأن يقوم رجل من
كنانة يسمى
القلمس في أيام منى حيث يجتمع الحجيج العام ، فيقول : أنا الذي لا أحاب ولا أعاب ، ولا يرد قولي . وفي رواية أنه يقول : أنا الذي لا يرد لي قضاء . فيقولون : صدقت فأخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر ، فيحل لهم المحرم ، وبذلك يجعل الشهر الحرام حلالا ، ثم صاروا ينسئون غير المحرم ويسمون النسيء باسم الأصل فتتغير أسماء الشهور كلها ، وأما قتالهم نفسه فقد كان كله حراما وبغيا وعدوانا أو ثأرا .
وفي كتاب الأنساب
للبلاذري أن ممن كان ينسأ الشهور لهم
أبو ثمامة القلمس بن أمية بن عوف إلخ . نسأ الشهور أربعين سنة وهو الذي أدرك الإسلام ، وذكر من نسأ قبله من قومه ، ثم قال : وكانت
خثعم وطيئ لا يحرمون الأشهر الحرم فيغيرون فيها ويقاتلون ، فكان من نسأ الشهور من الناسئين يقوم فيقول : إني لا أحاب ولا أعاب ولا يرد ما قضيت
[ ص: 362 ] به ، وإني قد أحللت دماء المحللين من
طيئ وخثعم فاقتلوهم حيث وجدتموهم إذا عرضوا لكم . ( قال ) وأنشدني
عبد الله بن صالح لبعض القلامس
لقد علمت عليا كنانة أننا إذا الغصن أمسى مورق العود أخضرا أعزهم سربا وأمنعهم حمى
وأكرمهم في أول الدهر عنصرا وأنا أريناهم مناسك دينهم
وحزنا لهم حظا من الخير أوفرا وإن بنا يستقبل الأمر مقبلا
وإن نحن أدبرنا عن الأمر أدبرا
وقال
عمير بن قيس بن جندل الطعان :
لقد علمت معد أن قومي كرام الناس إن لهم كراما
ألسنا الناسئين على معد شهور الحل نجعلها حراما
فأي الناس لم ندرك بوتر ؟ وأي الناس لم نعلك لجاما ؟
فعلم من هذا أن النسيء تشريع ديني ملتزم غيروا به ملة
إبراهيم بسوء التأويل واتباع الهوى ، فلهذا سماه الله زيادة في الكفر ، أي أنه كفر بشرع دين لم يأذن به الله زائد على أصل كفرهم بالشرك بالله تعالى ، فإن شرع الحلال والحرام والعبادة حق له وحده ، فمنازعته فيه شرك ربوبيته كما تقدم في مواضع ، أقربها تفسير قوله :
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا ( 31 ) وأنهم يضلون به سائر الكفار الذين يتبعونهم فيه ، فيتوهمون أنهم لم يخرجوا به عن ملة
إبراهيم إذ واطئوا فيه عدة ما حرمه الله من الشهور في ملته ، وإن أحلوا ما حرمه الله وهو المقصود بالذات من شرعه في هذه المسألة لا مجرد العدد ، فهل يعتبر بهذا من يتجرءون على التحليل والتحريم بآرائهم وتقاليدهم من غير نص قطعي عن الله ورسوله ؟ .
زين لهم سوء أعمالهم قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : يريد زين لهم الشيطان سوء أعمالهم بهذه الشبهة الباطلة ، وهي أنهم يحرمون العدد الذي حرمه الله تعالى لم ينقصوا منه شيئا . وقد أسند التزيين في بعض الآيات إلى الله تعالى ؛ لظهور خيريته وحكمته ، وفي بعضها إلى الشيطان لوضوح مفسدته ، وفي بعضها إلى المفعول لإبهامه ، وبينا مناسبة كل منها للموضوع الذي ورد فيه
والله لا يهدي القوم الكافرين إلى حكمه في أحكام شرعه ، وبنائها على مصالح الناس ، وإصلاح أفرادهم ومجتمعهم في أمور دينهم ودنياهم ، فإن هذه الهداية الموصلة إلى سعادة الدنيا والآخرة من توابع الإيمان وآثاره كما قال :
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم ( 10 : 9 ) ، وأما الكافرون فيتبعون فيها أهواءهم وشهواتهم وما يزينه لهم الشيطان وهي سبب الشقاء ودخول النار .
[ ص: 363 ] روى الشيخان وغيرهما من حديث
أبي بكرة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=920301إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض : السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ، ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " قال هذا في
منى عام حجة الوداع . وله ألفاظ أخرى بزيادة عما هنا . والمراد من استدارة الزمان عودة حساب الشهور إلى ما كان عليه من أول نظام الخلق بعد أن كان قد تغير عند العرب بسبب النسئ في الأشهر .
قال الحافظ في شرحه من الفتح وكانوا في الجاهلية على أنحاء ، منهم من يسمي المحرم صفرا فيحل فيه القتال ، ويحرم القتال في صفر ويسميه المحرم ، ومنهم من كان يجعل سنة هكذا وسنة هكذا . ومنهم من يجعله سنتين هكذا وسنتين هكذا ، ومنهم من يؤخر صفرا إلى ربيع الأول ، وربيعا إلى ما يليه ، وهكذا إلى أن يصير شوال ذا القعدة ، وذو القعدة ذا الحجة ، ثم يعود فيعيد العدد على الأصل اهـ . وذكر عن
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري أنهم كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا ، وفي رواية 12 شهرا و 25 يوما ، فالمراد من استدارة الزمان إذا أن الحج قد وقع في تلك السنة في ذي الحجة الذي هو شهره الأصلي بما كان من تنقل الأشهر بالنسيء . ونقل عن
الخطابي أنهم كانوا يخالفون بين أشهر السنة بالتحليل والتحريم والتقدير والتأخير لأسباب تعرض لهم ، منها استعجال الحرب ، فيستحلون الشهر الحرام ثم يحرمون بدله شهرا غيره ، فتتحول في ذلك شهور السنة وتتبدل ، فإذا أتى على ذلك عدة من السنين استدار الزمان ، وعاد الأمر إلى أصله فاتفق وقوع حجة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عند ذلك اهـ .
وقال الحافظ في شرحه لألفاظ الحديث : إن المراد بالزمان السنة ، وقوله " كهيئته " أي : استدار استدارة مثل حالته ، ولفظ الزمان يطلق على قليل الوقت وكثيره . والمراد باستدارته وقوع تاسع ذي الحجة في الوقت الذي حلت فيه الشمس برج الحمل حيث يستوي الليل والنهار اهـ .
وقد كان الأمر كذلك ، ولعل حكمته الإشارة إلى تجديد الله تعالى لدينه وإكمال هدايته كما تجدد عمر الزمان بفصل الربيع الذي تحيا فيه الأرض بالنبات ، فاستدارة الزمان حسابية وطبيعية ودينية ، وإنني منذ سمعت هذا الحديث أشعر بأن له معنى غير الحساب الزمني .
وذكر
الحافظ ابن كثير في تفسيره للآية قول بعض المفسرين والمتكلمين في استدارة الزمان بمعنى ما سبق ، ثم قال : وزعموا أن حجة الصديق في سنة تسع كانت في ذي القعدة . وأغرب منه ما رواه
nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني عن بعض السلف في جملة حديث أنه اتفق في حجة الوداع
[ ص: 364 ] حج المسلمين
واليهود والنصارى في يوم واحد ، وهو يوم النحر عام حجة الوداع والله أعلم اهـ . قلت : فإن صح هذا كان إشارة أو بشارة بتحقق ما شرع له الإسلام بإرسال خاتم النبيين إلى الناس كافة وجمعه الكلمة واهتداء الأمم به .
ولهذه الرواية ما يؤيدها من كتب التاريخ ، لخص بعضها
محمد لبيب بك البتانوني في رحلته الحجازية قال : إن
الكعبة كانت قبل الإسلام بنحو من 27 قرنا ذات منزلة سامية عند العرب ، وثنييهم ويهودهم ونصاراهم ، وقد تجاوزت مكانتها جزيرة العرب إلى بلاد
الفرس الذين كانوا يعتقدون أن روح ( هرمز ) نقلت في
الكعبة ، ثم إلى بلاد
الهنود ، وكانوا يعتقدون أن روح ( شبوه ) أحد آلهتهم قد تقمصت في الحجر الأسود ، وقدماء المصريين كانوا يسمون
الحجاز بالبلاد المقدسة .
واليهود كانوا يحترمونها ويتعبدون فيها على دين
إبراهيم ،
والنصارى من العرب لم يكن احترامهم لها بأقل من احترام
اليهود إياها ، وكان لهم فيها صور وتماثيل منها تمثال
إبراهيم وإسماعيل ، وفي أيديهما الأزلام ، وصورة
العذراء والمسيح إلى أن قال :
هكذا كان شأن الكعبة في الجاهلية ، قد أجمع جميع الناس على اختلاف دياناتهم على احترامها ، واتخذها كل منهم معبدا يعبد الله فيه على حسب دينه أو مذهبه إلخ .