الكلمة الثانية ، تفنيد مراء
الروافض ، وتحريفهم وتبديلهم لهذه المناقب :
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16785الفخر الرازي بعد تفسير الآية ، واستنباط ما فيها من المناقب بدون ما ألهمنا الله تعالى إياه ما نصه : واعلم أن
الروافض احتجوا بهذه الآية وبهذه الواقعة على
الطعن في أبي بكر من وجوه ضعيفة حقيرة جارية مجرى إخفاء الشمس بكف من الطين .
( فالأول ) قالوا : إنه قال
لأبي بكر : "
لا تحزن " فذلك الحزن إن كان حقا فكيف
[ ص: 390 ] نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عنه ؟ وإن كان خطأ لزم أن يكون
أبو بكر مذنبا وعاصيا في ذلك الحزن ( والثاني ) قالوا : يحتمل أن يقال إنه استخلصه لنفسه ؛ لأنه كان يخاف منه أنه لو تركه في
مكة أن يدل الكفار عليه ، وأن يوقفهم على أسراره ومعانيه ، فأخذه معه دفعا لهذا الشر ( والثالث ) أنه وإن دلت هذه الحالة على فضل
أبي بكر إلا أنه أمر
عليا بأن يضطجع على فراشه ، ومعلوم أن الاضطجاع على فراش رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مثل تلك الليلة الظلماء مع كون الكفار قاصدين قتل رسول الله تعريض النفس للفداء ، فهذا العمل من
علي أعلى وأعظم من كون
أبي بكر صاحبا للرسول - فهذه جملة ما ذكروه في هذا الباب اهـ .
هذا ما نقله
الرازي بحروفه وقال : إنه أخس من شبهات
السوفسطائية ورد عليه ، وذكر في رده ردا آخر
nindex.php?page=showalam&ids=13980لأبي علي الجبائي إمام
المعتزلة في عصره في القرن الثالث ( توفي سنة 303 ) فدل هذا على قدم هذا الجهل والسخف في القوم .
وقد بسط ذلك
الشهاب الآلوسي في تفسيره نقلا عنهم ، وكان كثير الاحتكاك بعلمائهم في
بغداد فقال ما نصه : وأنكر
الرافضة دلالة الآية على شيء من الفضل في حق
nindex.php?page=showalam&ids=1الصديق ـ رضي الله عنه ـ . قالوا : إن الدال على الفضل إن كان : ثاني اثنين فليس فيه أكثر من كون
أبي بكر متمما للعدد - وإن كان : إذ هما في الغار فلا يدل على أكثر من اجتماع شخصين في مكان ، وكثيرا ما يجتمع فيه الصالح والطالح ، وإن كان ( لصاحبه ) فالصحبة تكون بين المؤمن والكافر كما في قوله تعالى :
قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك ( 18 : 37 ) وقوله سبحانه :
وما صاحبكم بمجنون ( 81 : 22 ) و
ياصاحبي السجن ( 12 : 39 ) بل قد تكون بين من يعقل وغيره كقوله :
إن الحمار مع الحمار مطية وإن خلوت به فبئس الصاحب
وإن كان
لا تحزن فيقال : لا يخلو إما أن يكون الحزن طاعة أو معصية ، لا جائز أن يكون طاعة وإلا لما نهى عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فتعين أن يكون معصية لمكان النهي ، وذلك مثبت خلاف مقصودكم ، على أن فيه من الدلالة على الجبن ما فيه - وإن كان
إن الله معنا فيحتمل أن يكون المراد إثبات معية الله الخاصة له ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحده ، لكن أتى بـ " نا " سدا لباب الإيحاش ، ونظير ذلك الإتيان بـ " أو " في قوله :
وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ( 34 : 24 ) وإن كان :
فأنزل الله سكينته عليه ( 40 ) فالضمير فيه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لئلا يلزم تفكيك الضمائر ، وحينئذ يكون في تخصيصه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالسكينة هنا مع عدم التخصيص في قوله سبحانه : 30
فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ( 48 : 26 )
[ ص: 391 ] إشارة إلى ضد ما ادعيتموه - وإن كان ما دلت عليه الآية من خروجه مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك الوقت فهو عليه الصلاة والسلام لم يخرجه معه إلا حذرا من كيده لو بقى مع المشركين
بمكة ، وفي كون المجهز لهم بشراء الإبل
عليا كرم الله وجهه إشارة لذلك . وإن كان شيئا وراء ذلك فبينوه لنتكلم عليه . انتهى كلامهم .
( قال
الشهاب الآلوسي إثر نقله ) : ولعمري إنه أشبه شيء بهذيان البمحموم أو عربدة السكران ، ولولا أن الله سبحانه حكى في كتابه الجليل عن إخوانهم
اليهود والنصارى ما هو مثل ذلك ، ورده رحمة بضعفاء المؤمنين ما كنا نفتح في رده فما ، أو نجري في ميدان تزييفه قلما . ثم رد كل كلمة قالوها ردا علميا أدبيا مفحما ، وما شرحناه في تفسير الآية ، وما استنبطناه منها بمعونة أحاديث الهجرة من المناقب التي هي نصوص ظاهرة في تفضيل
nindex.php?page=showalam&ids=1الصديق على جميع الصحابة ـ رضي الله عنه ـ وعنهم ، ولعن مبغضيه ومبغضيهم ، وما سنزيده على ذلك هنا من إفحامهم يغنينا عن نقل عبارته ، فإنه أقوى منه في تفنيدها هذا التحريف لكلام الله وكلام رسوله والافتراء المفضوح المعلوم بطلانه بالبداهة ، وإنما أختار من كلام السيد
الآلوسي قوله في آخره :
" وأيضا إذا انفتح باب هذا الهذيان أمكن للناصبي أن يقول والعياذ بالله تعالى في
علي كرم الله وجهه : إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يأمره بالبيتوتة على فراشه ليلة هاجر إلا ليقتله المشركون ظنا منه أنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيستريح منه . وليس هذا القول بأعجب ولا أبطل من قول الشيعي إن إخراج
nindex.php?page=showalam&ids=1الصديق إنما كان حذرا من شره . فليتق الله من فتح هذا الباب ، المستهجن عند أولي الألباب " اهـ .
أقول : ومن هذا الباب في سوء التأويل ، الذي يقوله من لا يعتقد صحته لمحض التضليل ، تأويل
معاوية لحديث "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920325ويح عمار تقتله الفئة الباغية " فإنه لما علم أن فئته قال : إنما قتله من أخرجه - يعني
عليا كرم الله وجهه - بل هذا التأويل الباطل أقرب إلى اللغة من تأويل
الروافض لخروج
nindex.php?page=showalam&ids=1الصديق مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المذكور آنفا إن صح أن يسمى تأويلا ، وإنما هو تضليل لا تأويل ؛ فإن هذه الفرية التي افتجرها هؤلاء الفجرة ليس لها شبهة لغوية لا من ألفاظ الآية ، ولا من ألفاظ أحاديث الهجرة ، بل هي مصادمة للنصوص كلها ومناقضة لما تواتر وصار معلوما بالضرورة من سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونشأة الإسلام من ملازمة
nindex.php?page=showalam&ids=1الصديق له من أول الإسلام إلى آخر حياته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما لا حاجة إلى شرحه ، ولا سيما بعد ما بسطناه هنا من أمره .
[ ص: 392 ] وأما تأويل
معاوية فله شبهة لغوية ، وهو إسناد الشيء إلى سببه مجازا ، ومنه إخراج المشركين للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمؤمنين من
مكة إنما أطلق على سببه وهو الاضطهاد والإيذاء الذي نالوهم به ، ولكن لا يحمل اللفظ على المجاز إلا عند وجود المانع من حمله على الحقيقة . ولما بلغ أمير المؤمنين
عليا كرم الله وجهه قوله رد عليه بأنه يقتضي أن يكون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الذي قتل عمه
حمزة وابن عمه
جعفر أو غيرهما من شهداء
بدر وأحد وسائر الغزوات ؛ لأنه هو الذي أخرجهم إلى القتال .
ثم إن من المعلوم بالبداهة أن من يخاف من وشاية آخر عليه لا يخبره بسره ، فكيف أمن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
أبا بكر على سره ، ورضي أن يعلم بذلك جميع أهل بيته ، وأن يتعاهدهما ولده وعتيقه في الغار بالغذاء وبالأنباء كل ليلة ، وأن يكون هو الذي يتولى استئجار الدليل الذي يرحل بهما ؟ .
ثم أقول زيادة في فضيحة هؤلاء المخرفين المحرفين : ( أولا ) إنكم تزعمون أنه لا فضيلة في صحبة
nindex.php?page=showalam&ids=1الصديق للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الغار ، ويلزم منه لا فضيلة في صحبته ، ولا في صحبة سائر المؤمنين له في غير الغار من أزمنة رسالته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالأولى ؛ إذ تستدلون على ذلك بأن الصحبة تكون بين المؤمن والكافر والبر والفاجر وبين الإنسان والحيوان أيضا . فإذا كنتم تلتزمون هذا الاستدلال فإنه يلزمكم خزيان لا مفر لكم منهما : أحدهما : أن صحبة الرسول الأعظم ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعلى الله قدره ، ورفع ذكره ، وصحبة الكافر أو الحمار سواء ( وأستغفر الله تعالى من حكاية هذا الجاهل وإن كان حاكي الكفر ليس بكافر ) ؛ لأن كلا منهما تسمى صحبة في اللغة والعبرة عندكم بالتسمية دون متعلقها ، أي أن ما أسند إليه الفعل ، وما وقع عليه ، وما لا شأن له عندكم في كونه حقا أو باطلا أو فضيلة أو رذيلة . وما قلتموه في الصحبة يجري مثله في الهجرة ، فإنه ثبت في الحديث الصحيح كما هو ثابت في الواقع أن الهجرة قد تكون إلى الله ورسوله ، وقد تكون لأجل منفعة دنيوية أو امرأة يريد المهاجر أن يتزوجها . وإذ كان كل منهما يسمى هجرة ، فالمهاجرون عندكم سواء في أنه لا فضيلة لهم ، ولا أجر عند الله تعالى خلافا لنصوص القرآن .
ثانيهما : أن الإيمان بالله تعالى والعبادة الخالصة له لا يعدان عندكم من الفضائل ؛ لأنهما مشتركان في الاسم مع الإيمان بالجبت والطاغوت وعبادة الشيطان والأوثان فقد قال الله تعالى :
ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ( 4 : 51 ) الآية . وقال :
بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ( 34 : 41 ) وقال :
ألم أعهد إليكم يابني آدم أن لا تعبدوا الشيطان ( 36 : 60 )
[ ص: 393 ] وقال :
ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ( 10 : 18 ) .
وإذا نحن انتقلنا إلى طبيعة الصحبة ، وما فيها من العلم والحكمة ، نقول : إن ما هذى به
الروافض من صحبة المؤمن للكافر ونحوها إنما يصح في الصحبة الاتفاقية العارضة ، كصحبة
يوسف لمن كان معه في السجن ، والرجلين اللذين ضرب المثل بهما في سورة الكهف ، دون صحبة المودة ولا سيما الدائمة ؛ وذلك أن صحبة المودة الاختيارية لا تكون إلا بين المتشاكلين في الصفات والأفكار ، كما يدل عليه حديث
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003443الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف رواه
أحمد nindex.php?page=showalam&ids=12070والبخاري ومسلم وغيرهم . وقد تعارفت روحا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
وأبي بكر من قبل الإسلام فائتلفتا ، وزادهما الإسلام تعارفا وائتلافا ، حتى إنهما لم يفترقا في وقت من الأوقات ، ولا في طور من الأطوار ، وقد مهد ـ صلى الله عليه وسلم ـ السبيل لاجتماع قبريهما إذ أرشد الأمة إلى دفنه في بيت
عائشة الصديقة ـ رضي الله عنهما ـ وهو يعلم أنها لا بد أن تدفن والدها بجانبه وعلماء التربية والأخلاق يعدون الصحبة والمعاشرة ركنا من أركان اقتباس كل من الصاحبين من الآخر ، فيحثون على صحبة الأخيار ، ويحذرون من صحبة الأشرار ، قال الشاعر الحكيم :
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
وقال آخر :
وقائل كيف تفارقتما فقلت قولا فيه إنصاف
لم يك من شكلي ففارقته والناس أشكال وآلاف
206 ( ثانيا ) أنكم تزعمون أنه لا فضيلة
للصديق الأكبر ـ رضي الله عنه ـ في كونه مع الرسول الأعظم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثاني اثنين بشهادة رب العزة ، ولا في كون الله عز وجل ثالثهما ؛ لأن العدد لا فضيلة فيه بزعمكم مهما تكن قيمة المعدود بذلك العدد ، وأنتم تعلمون أن المؤمنين بكتاب الله تعالى وبرسوله لا يقولون إن لفظ " اثنين " أو لفظ " ثاني " أو " ثالثهما " ، له فضيلة في حروفه أو تركيبها أو النطق به ، وإنما يقولون إن الفضيلة
للصديق الأكبر ـ رضي الله عنه ـ في المعدود والمراد بلفظ ثاني اثنين في الآية وبلفظ " ما قولك يا
أبا بكر في اثنين الله ثالثهما " في الحديث ، فثلاثة رب العالمين أحدهم وسيد ولد آدم وخاتم النبيين والمرسلين ثانيهم يكون
nindex.php?page=showalam&ids=1لأبي بكر الصديق أعظم الشرف في أن يكون ثالثهم - أو كما قلتم متما للعدد - ويزيد هذا الشرف الذاتي قيمة أنه ليس يحصل مثله بالمصادفة ، ولا بالكسب والسعي ، وإنما الذي اختاره له هو رسول الله بإذن الله ، والمخبر بذلك هو الله ورسوله . ولو وردت هذه الآية وهذا الحديث في
علي ـ رضي الله عنه ـ وكرم الله وجهه لقلتم في الثلاثة حينئذ نحوا
[ ص: 394 ] مما قالت
النصارى في ثالوثهم ( الآب والابن وروح القدس ) كما قلتم في كونه كرم الله وجهه أحد الذين ثبتوا معه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في
حنين ، فجعلتم هذا الثبات الذي لم ينفرد به ، ولم يثبت بنص القرآن ، ولا بحديث مرفوع ، ولا مرسل متواتر ، حجة على كونه وحده دون من اعترفتم بثباتهم معه سببا للنصر ، وإنقاذ الرسول من القتل ، وبقاء الإسلام والمسلمين في الوجود ، وكما فعلتم في حديث مؤاخاة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له ، إذ فضلتموه به على
nindex.php?page=showalam&ids=1الصديق وغيره على حين قد ثبتت تسمية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
nindex.php?page=showalam&ids=1الصديق أخا له بأحاديث أصح من ذلك الحديث كقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003444لو كنت متخذا من أمتي خليلا دون ربي لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن أخي وصاحبي رواه
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري من حديث
ابن الزبير nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس وغيره ، وهو يدل على أن
أبا بكر عنده أعلى منزلة من جميع أمته .
وقد قرأنا وسمعنا عنكم أنكم تفخرون بعدد آخر لم تثبت روايته بمثل ما ثبتت به رواية هذا العدد ، ولا يبلغ درجته في عظمة المعدود . قال
nindex.php?page=showalam&ids=16785الفخر الرازي : واعلم أن
الروافض في الدين كانوا إذا حلفوا قالوا : وحق خمسة سادسهم ، وأرادوا به أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ
وعليا وفاطمة والحسن والحسين كانوا قد احتجبوا تحت عباءة يوم المباهلة فجاء
جبريل وجعل نفسه سادسا لهم ، فذكروا للشيخ الإمام الوالد رحمه الله تعالى أن القوم هكذا يقولون ، فقال رحمه الله : لكم ما هو خير منه بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920304ما ظنك باثنين الله ثالثهما " ؟ ومن المعلوم بالضرورة أن هذا أفضل وأكمل اهـ .
وأقول : إن من أكبر جنايات
الروافض على الإسلام والمسلمين أنهم جعلوا
أبا بكر وعليا ـ رضي الله عنهما ـ خصمين ، وما ورد في مناقبهما معارضا بعضه ببعض ، وكل هذا باطل ، فما كانا إلا أخوين في الله ، وفي نصر رسوله ، وإقامة الإسلام ، ولكل منهما مقام معلوم ، وما ورد في مناقب
علي أعلى الله مقامه أكثر مما ورد في مناقب غيره ، كما قال الإمام
أحمد رحمه الله تعالى . وقد غلط
الرازي في نقله أن مسألة العباءة أو الكساء وردت في قصة المباهلة ، فإن المعروف أنها وردت في إثبات جعل
علي وزوجه وولديهما من أهل البيت النبوي عليهم السلام داخلين في معنى قوله تعالى :
إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ( 33 : 33 ) والآية واردة في الأزواج الطاهرات ـ رضي الله عنهن ـ إذ
nindex.php?page=hadith&LINKID=920326روي أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ جمعهم معه في الكساء ، ودعاء الله بأن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا ، والمقام لا يسمح بالبحث في هذه المسألة هنا .
( ثالثا ) أنكم زعمتم أن نهي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
للصديق عن الحزن يدل على أنه ـ رضي الله عنه ـ كان عاصيا بذلك الحزن ومتصفا بالجبن ، وهذا الزعم دليل على جهلكم بالقرآن ، وبمقام الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وباللغة ، وبطباع البشر ، وإنما
[ ص: 395 ] أوقعكم في هذه الجهالات التعصب الذميم ، وسوء النية فيه ، وحسبي في إثبات جهلكم ما بينته في تفسير الجملة من معنى الحزن والنهي عنه ، وأن جملة
لا تحزن لم ترد في غير هذه الآية من القرآن إلا في خطاب الله لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وفي خطاب الملائكة
للوط عليه السلام ، فإن كنتم تقولون إنها تدل على العصيان والجبن يلزمكم من الطعن في الرسول الأعظم ، وفي نبي الله
لوط ما هو صريح الكفر ، بل أثبت الله تعالى عروض الحزن للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالفعل في قوله :
قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون ( 6 : 33 ) ومن المتواتر أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان أشجع الناس ، وحسب
nindex.php?page=showalam&ids=1الصديق شرفا أن ينهاه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عما نهاه ربه عنه ، وأي شرف أعلى من هذا ؟ .
( رابعا ) أن ما زعمتموه من احتمال أن يكون المراد من جملة
إن الله معنا إثبات المعية للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحده ، لا يصدر مثله إلا عنكم بالتبع لملاحدة سلفكم الباطنية الذين قالوا مثل هذا في الصلاة والصيام ، وغيرهما من العقائد وشرائع الإسلام ، فإنه مما يأباه اللفظ والأسلوب والسياق والمقام ، وإنما يقصد بالكلام الإفهام ، وما زعمتموه صريح في أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أفهم صاحبه غير الحق وأراد أن يغشه ويوهمه بالباطل أن الله معهما ؟ حاش لله وحاش لرسوله ، ما هذا إلا من نوع تحريف
اليهود والباطنية لكلام الله ، بما لا يليق بالله ولا برسوله . وهذه الجملة بعيدة أشد البعد عن جملة :
وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ( 34 : 24 ) المراد بها استمالة الكفار المعاندين لاستماع حجج القرآن وكانوا ينهون عنه وينأون عنه ( 6 : 26 ) والترديد فيها حق ؛ فإن أحد الفريقين على هدى أو في ضلال مبين لا مفر من ذلك في نظر العقل ، وهو لا يمنع أن يكون الواقع بالفعل أن المخاطب لهم وهو الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الهدى ، وأن يكونوا هم في ضلال مبين .
ولما كان
أبو جعفر محمد بن علي الطبرسي من علماء العربية ومعتدلي
الشيعة أبت عليه كرامة العلم أن يسفه نفسه بنقل جهالتهم التي نقلها
الرازي والآلوسي للرد عليها ، فكان كل ما ضعف به مناقب
nindex.php?page=showalam&ids=1الصديق ـ رضي الله عنه ـ في الآية ترجيح القول بأن الضمير في قوله تعالى : فأنزل الله سكينته عليه راجع إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، واحتج عليه بما احتج غيره ممن رجحوا هذا القول من اتساق مرجع الضمائر - وقد علمت ما فيه - وأشار بعده إلى ما للشيعة من الكلام في ذلك ، وقال : إنه أبى أن ينقله لئلا يتهم بما لا يجب أن يتهم به .
( خامسا ) زعمكم أن
عليا كرم الله وجهه هو المجهز لهم بشراء الإبل لم يثبت برواية صحيحة ، بل الثابت في الصحيح ما تقدم في حديث الهجرة الذي سردناه آنفا من
شراء nindex.php?page=showalam&ids=1الصديق للراحلتين ، وأخذه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لإحداهما بالثمن . ولو ثبت قولكم لم يكن دالا على ما زعمتموه كما هو ظاهر .
[ ص: 396 ] هذا وإنني أعتقد أن قائلي ما ذكره المفسرون من تحريف
الرافضة للآية الكريمة وللأحاديث الشريفة في مناقب
nindex.php?page=showalam&ids=1الصديق ليسوا من الجهل باللغة العربية بحيث يعتقدون صحة ما قالوا وما كتبوا ، وإنما هم قوم بهت يجحدون ما يعتدون ، ويفترون الكذب وهم يعلمون ، ويحرفون الكلم عن مواضعه
كاليهود الأولين الذين حرفوا البشارات
بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وكدعاة النصرانية في هذا العصر ، والذين وضعوا لهم قواعد الرفض وخطط التأويل والتحريف هم ملاحدة
الشيعة الباطنية أعداء الإسلام ، الذين كانوا يتوسلون بها إلى هدم هذا الدين ، وإزالة ملك العرب ؛ تمهيدا لإعادة الديانة المجوسية والسلطة الكسروية ، وقد وضعوا لهم من الأحاديث والآثار عن أئمة آل البيت في تحريف القرآن والغلو فيهم ، ومن قواعد البدع ما كانوا به شر فرق المبتدعة في هذه الأمة ، وقد برعوا في تربية عوامهم على بدعهم بما فيها من الغلو في تعظيم
علي وآله بما هو وراء محيط الدين والعقل واللغة ، والغلو في بغض
nindex.php?page=showalam&ids=1الصديق والفاروق nindex.php?page=showalam&ids=7وذي النورين وأكابر المهاجرين وجمهور الصحابة ، والطعن فيهم بما هو وراء محيط الدين والعقل واللغة أيضا . وإنما خصو الخليفتين الأولين منهم بمزيد البغض والذم ؛ لأنهما هما اللذان جهزا الجيوش وسيروها إلى
بلاد فارس ففتحوها وأزالوا دينها وملكها من الوجود . وقد صارت هذه التقاليد راسخة بالتربية والوراثة حتى صار من يسمونهم العلماء المجتهدين يكتبون مثل ما نقلناه عن بعض المعاصرين منهم في الكلام على غزوة حنين ، وهو أعرق في الغلو ، وأرسخ في الجهل مما نقله
الرازي والآلوسي هنا عن بعض متقدميهم . فإذا كان هذا حال من يسمونهم العلماء المجتهدين ، فكيف يكون حال من وطنوا أنفسهم على التقليد في طلب العلم ؟ ثم كيف حال عوامهم الذين يلقنونهم هذه الأضاليل ويربونهم على بغض من أقام الله بهم صرح هذا الدين ، وصرح في كتابه العزيز بأنه رضي عنهم ورضوا عنه ، وعلى لعن من فضله الله ورسوله عليهم كلهم ؟ وناهيك بهذه الآية تفضيلا ومن أصدق من الله قيلا ( 4 : 122 ) .
ألا إن هؤلاء
الروافض شر مبتدعة هذه الملة ، وأشدهم بلاء عليها ، وتفريقا لكلمتها ، وقد سكنت رياح التفريق التي أثارها غيرهم من الفرق في الإسلام ، وبقيت ريحهم عاصفة وحدها ، فهؤلاء
الإباضية لا يزال فيهم كثرة وإمارة ، ولا نراهم يثيرون بها مثل هذه العداوة . ولو كانوا يقفون عند حد تفضيل
علي على
أبي بكر ، والقول بأنه كان أحق بالخلافة منه لهان الأمر ، وأمكن أن يتحدوا مع أهل السنة الذين يعذرونهم باعتقادهم هذا إذا لم يترتب عليه ضرر ، ويعتصموا بحبل الله ، ولا يتفرقوا هذا التفرق ولا يتعادوا هذا التعادي اللذين أضعفا الإسلام وأهله ، ومزقا ملكه كل ممزق ، حتى استذل الأجانب أكثر أهله ، وهم لا يزالون يشغلون المسلمين بالتعادي على ما مضى من التنازع في مسألة الخلافة ، ويؤلفون الكتب والرسائل في القدح في الصحابة . وياليتهم يطلبون إعادة الخلافة لأهل البيت وتجديدها ؛ لإقامة دين الله
[ ص: 397 ] وإعادة مجد الإسلام وسيادته ، فإن أهل السنة لا يختلفون في أن آل
علي أصح بطون
قريش أنسابا . وأكرمها أحسابا ، وأن الخلافة في
قريش ، فإن وجد فيهم من تجتمع فيه سائر شروطها ويرضاه أهل الحل والعقد من الأمة فهو أولى من غيره . كلا إنهم ينتظرون تجديد الإسلام وإقامته بظهور المهدي ، وعامة المسلمين ينتظرونه معهم ، فليكتفوا بهذا ويكفوا عن تأليف الكتب في الطعن في الصحابة الكرام ، وبحملة السنة وحفاظها الأعلام ، وإثارة الأحقاد والأضغان ، التي لا فائدة لهم منها في هذا الزمان ، إلا التقرب إلى غلاتهم من العوام ، طمعا في الجاه الباطل والحطام ، وإنما فائدتها الحقيقية للأجانب من أعداء الإسلام ، ومن العجائب أن
شيعة الأعاجم في
إيران قد شعروا بضرر الغلو ، وبالحاجة إلى الوحدة دون
شيعة العرب في
العراق وسورية فقد بلغنا عنهم ما نرجو أن يكون به خير قدوة لهم والله الموفق .