انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون
روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11870أبي الضحى مسلم بن صبيح أن هذه الآية أول ما نزل من هذه السورة ثم نزل ما قبلها وما بعدها بعد ذلك ، ولا يصح بهذا نقل ، ولا يقبله فهم ولا عقل . والمتبادر من هذا السياق أن أوله خطاب الله للمؤمنين في قتال أهل الكتاب وما يسوغه وما ينتهي به من قبول الجزية منهم ، ويتلوه إنكاره عليهم التثاقل عن النفر إذ استنفرهم الرسول لغزوة تبوك ، وما قبله من أول السورة سياق مستقل تكلمنا عليه في أول تفسير السورة ، وقد تقدم أن السورة نزلت كلها بعد غزوة تبوك ، وما قيل من استثناء الآيتين اللتين في آخرها . فإن صح أن شيئا نزل منها قبل السفر فهذا السياق من أوله إلى آخره لا هذه الآية وحدها ، وأما ما بعد هذه الآية فظاهر أن أكثره نزل في أثناء السفر ، ومنه ما نزل بعده كما سنوضحه .
وأما وجه اتصال الآية بما قبلها فهو أنه لما وبخ الله تعالى المؤمنين على التثاقل عن النفر لما استنفرهم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، قفى عليه ببيان حكم
النفير العام ، الذي يوجب القتال على كل فرد من الأفراد بما استطاع ، ولا يعذر فيه أحد بالتخلف عن الإقدام ، وترك طاعة الإمام ، فقال :
انفروا خفافا وثقالا الخفاف بالكسر جمع خفيف والثقال جمع ثقيل . والخفة والثقل يكونان بالأجسام وصفاتها من صحة ومرض ، ونحافة وسمن ، وشباب وكبر ،
[ ص: 398 ] ونشاط وكسل ، ويكونان بالأسباب والأحوال ، كالقلة والكثرة في المال والعيال . ووجود الظهر ( الراحلة ) وعدمه ، وثبوت الشواغل وانتفائها . فإذا أعلن النفير العام ، وجب الامتثال إلا في حال العجز التام ، وهو ما بينه تعالى في الآية 91 من هذا السياق :
ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله الآية ، وعذر القسم الثالث مشروط بما إذا لم يجد الإمام أو نائبه ما ينفق عليهم كما ذكر في الآية وستأتي . وما ورد عن مفسري السلف من تفسير الخفاف والثقال ببعض ما ذكرنا من الكليات فهو للتمثيل لا للحصر ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في تفسيرهما : نشاطا وغير نشاط . وفي رواية عنه : موسرين ومعسرين ، وفي رواية ثالثة : خفافا من السلاح ، أي : مقلين منه ، وثقالا به أي : مستكثرين منه .
والحسن والضحاك ومجاهد وقتادة وعكرمة : شبانا وشيوخا .
nindex.php?page=showalam&ids=16574وعطية العوفي : ركبانا ومشاة .
وأبو صالح : فقراء وأغنياء . وقال
ابن زيد في معناه : الثقيل الذي له الضيعة يكره أن يدع ضيعته . وقال
الحكم بن عيينة : مشاغيل وغير مشاغيل .
ومما هو نص في إرادة عموم الأحوال قول
nindex.php?page=showalam&ids=50أبي أيوب الأنصاري - وقد شهد المشاهد كلها إلا غزوة واحدة : قال الله تعالى :
انفروا خفافا وثقالا فلا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلا . رواه
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير . وروي عن
أبي راشد الحراني قال : وافيت
nindex.php?page=showalam&ids=53المقداد بن الأسود فارس رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جالسا على تابوت من توابيت الصيارفة
بحمص - وقد فضل عنها من عظمه - يريد الغزو فقلت له : قد أعذر الله إليك ، فقال : أبت علينا سورة البعوث - يعني براءة -
انفروا خفافا وثقالا وروي عن
حيان بن زيد الشرعبي قال : نفرنا مع
nindex.php?page=showalam&ids=16230صفوان بن عمرو - وكان واليا على
حمص - قبل الأفسوس إلى
الجراجمة فرأيت شيخا كبيرا هرما قد سقط حاجباه على عينيه . من
أهل دمشق على راحلته فيمن أغار ، فقلت : يا عم قد أعذر الله إليك ، قال : فرفع حاجبيه عن عينيه فقال : يا ابن أخي استنفرنا الله خفافا وثقالا ، ألا إنه من يحبه الله يبتليه ، ثم يعيده فيبقيه ، وإنما يبتلي الله من عباده من صبر وشكر وذكر ولم يعبد إلا الله عز وجل .
أقول : بمثل هذا الفهم للقرآن والاهتداء به فتح سلفنا البلاد ، وسادوا العباد ، وكانوا خيرا لهم من أبناء جلدتهم ، والمشاركين لهم في ملتهم . ولم يبق لأحد من شعوب أمتنا حظ من القرآن إلا تغنى بعضهم بتلاوته من غير فهم ولا تدبر ، واشتغال آخرين بإعراب جمله ، ونكت البلاغة في مفرداته وأساليبه ، من غير علم ولا فقه فيها ، ولا فكر ولا تدبر لما أودع من العظات والعبر في مطاويها ، فهم يتشدقون بأن : 30 خفافا وثقالا منصوبان على الحال ، ولا يرشدون أنفسهم ، ولا غيرهم إلى ما أوجباه على ذي الحال . وقد يذكر من يسمى الفقيه فيهم ما قيل من أن الآية منسوخة بقوله تعالى :
وما كان المؤمنون لينفروا كافة ( 9 : 122 )
[ ص: 399 ] وهو زعم مخالف لما عليه الأئمة كافة ، من أنه لا تعارض بين الآيتين كما سيأتي في تفسير الثانية . وبمثل هذا وذاك أضاع المسلمون ملكهم ، وصار أكثرهم عبيدا لأعدائهم ، ثم بين تعالى ما يجب من هذا النفر بقوله :
وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله أي : وجاهدوا أعداءكم الذين يقاتلون في سبيل الطاغوت من العلو والفساد في الأرض ، ببذل أموالكم وأنفسكم في سبيل الله الموصلة إلى الحق ، وإقامة ميزان العدل . فمن قدر على الجهاد بماله وبنفسه معا وجب عليه الجهاد بهما ، ومن قدر على أحدهما وجب عليه ما كان في قدرته منهما . كان المسلمون في الصدر الأول ينفق كل على نفسه في القتال ، ومن كان عنده فضل من المال بذل منه في تجهيز غيره كما فعل
عثمان ـ رضي الله عنه ـ في تجهيز جيش العسرة في هذه الغزوة ، وكما فعل غيره من أغنياء الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وهكذا يفعل أهل نجد الآن .
ولما صار بيت المال غنيا بكثرة الغنائم صار الأئمة والسلاطين يجهزون الجيش من بيت المال ، وأئمة
اليمن يدخرون المال لأجل القتال ، وينفقون على طائفة من الناس طول السنة ؛ لتكون مستعدة للقتال كلما استنفرت له . والدول المنظمة تقرر في كل عام مبلغا معينا من المال في ميزانية الدولة للنفقات الحربية من برية وبحرية وهوائية . وإذا وقعت الحرب يزيدون في هذه المبالغ ، ويجددون لها كثيرا من الضرائب ، بل يجعلون جميع أموال الدولة والأمة ومصالحها ومرافقها تحت نفوذ قواد الحرب يتصرفون فيها بالنظام لا بالاستبداد ، والمسلمون أولى منهم بكل ما ذكر .
ذلكم خير لكم أي : ذلكم الذي أمرتم به من النفر والجهاد الذي هو أبعد مرامي الأمم حفظ حقيقتها ، وعلو كلمتها ، وتقرير سياستها - خير لكم في دنياكم وآخرتكم ، أي : خير في نفسه بصرف النظر عن مقابله ، أو خير من القعود والبخل عنه ، أما الدنيا فلا حياة للأمم فيها ، ولا عز ولا سيادة إلا بالقوة الحربية ، والقعود عن القتال عند الحاجة إليه يغري الأعداء بالقاعدين العاجزين ، وحب الراحة يجلب التعب ، وأما الآخرة فلا سعادة فيها إلا لمن ينصر الحق ، ويقيم العدل ، ويتحلى بالفضائل ، ويتخلى عن الرذائل ، باتباع الدين القويم ، والعمل بالشرع العادل الحكيم . ولا يمكن هذا كله إلا باستقلال الأمة بنفسها ، وقدرتها على حفظ سيادتها وسلطانها بقوتها ، كما تقدم تفصيله في تفسير الآيات الكثيرة من سورة الأنفال ولا سيما :
وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ( 8 : 60 ) وفي أوائل هذه السورة .
[ ص: 400 ] إن كنتم تعلمون أي : إن كنتم تعلمون حقية هذه الخيرية علما إذعانيا يبعث على العمل ، وجواب " إن " محذوف دل عليه ما قبله ، أي : يكن خيرا لكم ، ويقدره بعضهم أمرا بالامتثال ، أي فانفروا وجاهدوا . وقد علم تلك الخيرية وامتثل هذا الأمر المؤمنون الصادقون ، واستأذن بعض المنافقين النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في التخلف فأذن لهم على ضعف أعذارهم ، وتخلف منهم ومن المؤمنين أناس آخرون فأنزل الله في الجميع الآيات الآتية في أثناء السفر .