والمؤلفة قلوبهم أي : الجماعة الذين يراد تأليف قلوبهم بالاستمالة إلى الإسلام أو التثبت
[ ص: 427 ] فيه ، أو بكف شرهم عن المسلمين ، أو رجاء نفعهم في الدفاع عنهم ، أو نصرهم على عدو لهم ، لا في تجارة وصناعة ونحوهما . فإن من يرى أن مخالفه في الدين مصدر نفع له يوشك أن يواده ، فإن لم يواده لم يحاده كالعدو الذي يخشى ضرره ولا يرجو نفعه .
وذكر الفقهاء أن
المؤلفة قلوبهم قسمان : كفار ومسلمون . والكفار ضربان ، والمسلمون أربعة ، فمجموع الفريقين ستة ، وهذا بيانهم بالتفصيل والاختصار : ( الأول ) قوم من سادات المسلمين وزعمائهم لهم نظراء من الكفار إذا أعطوا رجي إسلام نظرائهم ، واستشهدوا له بإعطاء
أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ
nindex.php?page=showalam&ids=76لعدي بن حاتم والزبرقان بن بدر مع حسن إسلامهما لمكانتهما في أقوامهما .
( الثاني ) زعماء ضعفاء الإيمان من المسلمين ، مطاعون في أقوامهم يرجى بإعطائهم تثبتهم ، وقوة إيمانهم ومناصحتهم في الجهاد وغيره ، كالذين أعطاهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ العطايا الوافرة من غنائم
هوازن ، وهم بعض الطلقاء من
أهل مكة الذين أسلموا فكان منهم المنافق ، ومنهم ضعيف الإيمان ، وقد ثبت أكثرهم بعد ذلك وحسن إسلامهم .
( الثالث ) قوم من المسلمين في الثغور وحدود بلاد الأعداء ، يعطون لما يرجى من دفاعهم عمن وراءهم من المسلمين إذا هاجمهم العدو ، وأقول : إن هذا العمل هو المرابطة ، وهؤلاء الفقهاء يدخلونها في سهم سبيل الله كالغزو المقصود منها . وأولى منهم بالتأليف في زماننا قوم من المسلمين يتألفهم الكفار ؛ ليدخلوهم تحت حمايتهم أو في دينهم ، فإننا نجد دول الاستعمار الطامعة في استعباد جميع المسلمين ، وفي ردهم عن دينهم يخصصون من أموال دولهم سهما للمؤلفة قلوبهم من المسلمين ، فمنهم من يؤلفونه لأجل تنصيره وإخراجه من حظيرة الإسلام ، ومنهم من يؤلفونه ؛ لأجل الدخول في حمايتهم ومشاقة الدول الإسلامية أو الوحدة الإسلامية ، ككثير من أمراء جزيرة العرب وسلاطينها ! ! أفليس المسلمون أولى بهذا منهم ؟ .
( الرابع ) قوم من المسلمين يحتاج إليهم لجباية الزكاة ممن لا يعطيها إلا بنفوذهم وتأثيرهم إلا أن يقاتلوا ، فيختار بتأليفهم وقيامهم بهذه المساعدة للحكومة أخف الضررين وأرجح المصلحتين وهذا سبب جزئي قاصر ، فمثله ما يشبهه من المصالح العامة .
( الخامس ) من الكفار من يرجى إيمانه بتأليفه واستمالته ،
كصفوان بن أمية الذي وهب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ له الأمان يوم فتح
مكة ، وأمهله أربعة أشهر لينظر في أمره بطلبه ، وكان غائبا فحضر وشهد مع المسلمين غزوة
حنين قبل أن يسلم ، وكان النبي صلى الله
[ ص: 428 ] عليه وسلم استعار سلاحه منه لما خرج إلى
حنين . وهو القائل يومئذ : لأن يرثني رجل من
قريش أحب إلي من أن يرثني رجل من
هوازن . وقد أعطاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إبلا كثيرا محملة كانت في واد ، فقال : هذا عطاء من لا يخشى الفقر ، وروى
مسلم nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي من طريق
nindex.php?page=showalam&ids=15990سعيد بن المسيب عنه قال : والله لقد أعطاني النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإنه لأبغض الناس إلي ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي . وأخرج
الترمذي من طريق
معروف بن خربوذ قال : كان
صفوان أحد العشرة الذين انتهى إليهم شرف الجاهلية ووصله لهم الإسلام من عشرة بطون . وقال
ابن سعد : كان أحد المطعمين في الجاهلية والفصحاء ، وقد حسن إسلامه .
( السادس ) من الكفار من يخشى شره فيرجى بإعطائه كف شره وشر غيره معه ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : إن قوما كانوا يأتون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن أعطاهم مدحوا الإسلام ، وقالوا : هذا دين حسن . وإن منعهم ذموا وعابوا . وكان من هؤلاء
سفيان بن حرب وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس ، الذين تقدم في قسمة غنائم
هوازن من تفسير هذه السورة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعطى كل واحد منهم مائة من الإبل .
وعن
أبي حنيفة أن سهم هؤلاء قد انقطع بإعزاز الله للإسلام وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=13790للشافعي . واحتجوا بما روي أن مشركا جاء يلتمس من
عمر مالا فلم يعطه وقال :
فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ( 18 : 29 ) ولا حجة في هذا ، بل قد يكون في غير الموضوع ؛ إذ لم يقل أحد أن كل مشرك يعطى لتأليفه . وقالوا أيضا : إن
عيينة بن حصن والأقرع بن حابس جاءا يطلبان من
أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ أرضا ، فكتب لهما خطا بذلك ، فمزقه
عمر ـ رضي الله عنه ـ وقال : هذا شيء كان يعطيكموه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تأليفا لكم ، فأما اليوم فقد أعز الله الإسلام وأغني عنكم ، فإن ثبتم على الإسلام وإلا فبيننا وبينكم السيف ، فرجعوا إلى
أبي بكر فقالوا : أنت الخليفة أم
عمر ؟ بذلت لنا الخط ومزقه
عمر - فقال هو إن شاء . فقد وافقه ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة . وهذه الرواية لا تقتضي سقوط هذا السهم ، وإنما ذلك اجتهاد من
عمر بأنه ليس من المصلحة استمرار هذا التأليف لهذين الرجلين الطامعين وأمثالهما ، بعد الأمن من ضرر ارتدادهما لو ارتدا ؛ لأن الإسلام قد ثبت في أقوامهما حتى إنه لا يترتب على قتلهما - لو ارتدا - أدنى فتنة .
واحتجوا أيضا بأنه لم ينقل أن
عثمان وعليا أعطيا أحدا من هذا الصنف ، وهذا لا يدل على سقوط السهم ، وإنما هو خبر سلبي لا حجة فيه ، وقصارى ما يدل عليه أن الخليفتين لم يعرض لهما حاجة إلى تأليف أحد من الكفار لذلك . وهو لا ينافي ثبوته لمن احتاج إليه من الأئمة بعدهما .
[ ص: 429 ] وأما من ادعى أنه منسوخ بالإجماع لما تقدم من عمل الخلفاء ، والسكوت عليه من سائر الصحابة ، فدعواه ممنوعة . لا الإجماع بثابت بما ذكر ، ولا كونه حجة على نسخ الكتاب والسنة صحيحا ، وإن اختلف فيه الأصوليون بما لا محل لذكره هنا .
وقال الإمام
الشوكاني في نيل الأوطار : وقد ذهب إلى جواز التأليف
العترة والجبائي والبلخي وابن بشر ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : لا نتألف كافرا ، فأما الفاسق فيعطى من سهم التأليف . وقال
أبو حنيفة وأصحابه : قد سقط بانتشار الإسلام وغلبته ، واستدلوا على ذلك بامتناع
أبي بكر من إعطاء
أبي سفيان وعيينة والأقرع وعباس بن مرداس . والظاهر جواز التأليف عند الحاجة إليه ، فإن كان في زمن الإمام قوة لا يطيعونه إلا للدنيا ، ولا يقدر على إدخالهم تحت طاعته بالقسر والغلب ، فله أن يتألفهم ولا يكون لفشو الإسلام تأثير ؛ لأنه لم ينفع في خصوص هذه الواقعة اهـ .
وهذا هو الحق في جملته ، وإنما يجيء الاجتهاد في تفصيله من حيث الاستحقاق ، ومقدار الذي يعطى من الصدقات ومن الغنائم إن وجدت وغيرها من أموال المصالح ، والواجب فيه الأخذ برأي أهل الشورى كما كان يفعل الخلفاء في الأمور الاجتهادية . وفي اشتراط العجز عن إدخال الإمام إياهم تحت طاعته بالغلب نظر ، فإن هذا لا يطرد ، بل الأصل فيه ترجيح الضررين وخير المصلحتين .