وفي سبيل الله هذا معطوف على قوله :
وفي الرقاب لا على ما قبله ؛ لأنه صرف
[ ص: 431 ] في مصلحة عامة لا لأشخاص مستهم الحاجة . والسبيل : الطريق ، وسبيل الله : الطريق الاعتقادي العملي الموصل إلى مرضاته ومثوبته كما تقدم مرارا . ولكثرة اقتران الجهاد والقتال الديني في القرآن بكونه في سبيل الله ، اتفقت المذاهب على أن الغزاة والمرابطين هم المقصودون بهذا الصنف من مستحقي الصدقات ، إما وحدهم ، وهو قول الجمهور ، وإما مع غيرهم مما يشمله عموم الإضافة في سبيل الله ، على بحث في تخصيصه سيأتي قريبا ، وقد جاء في التنزيل ذكر الهجرة في سبيل الله ، والضرب ( أي السفر )
في سبيل الله ، والإنفاق في سبيل الله ، والمخمصة ( أي المجاعة ) في سبيل الله . وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن المراد بأصحاب هذا السهم هنا : الحجاج والعمار ، وروي عن
أحمد nindex.php?page=showalam&ids=12418وإسحاق بن راهويه أنهما جعلا الحج من سبيل الله .
وفي كتاب المقنع - من أشهر كتب الحنابلة - في عد الأصناف ما نصه : ( السابع ) في سبيل الله وهم الغزاة الذين لا ديوان لهم ، ولا يعطى منها في الحج ، وعنه ( أي الإمام
أحمد ) يعطى الفقير قدر ما يحج به الفرض أو يستعين به فيه اهـ . وقد ضعف فقهاء الحنابلة هذه الرواية بأنها خلاف المتبادر ، وهو أن الفقير إنما يعطى لفقره ما يسد به حاجته وحاجة من يمونه ممن تجب عليه نفقتهم ، والحج غير واجب عليه .
ومذهب الشافعية كمذهب الحنابلة في أن سهم سبيل الله للغزاة غير المرتبين في ديوان السلطان سواء أكانوا أغنياء أم فقراء ، ونص
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي في " الأم " : ويعطى في سبيل الله جل وعز من غزا من جيران الصدقة فقيرا كان أو غنيا ، ولا يعطى منه غيرهم إلا أن يحتاج إلى الدفع عنهم فيعطاه من دفع عنهم المشركين اهـ . وإنما اشترط جيران الصدقة ؛ لأنه لا يجوز عنده
نقل الزكاة إلى أبعد من مسافة القصر .
وقال
الآلوسي في تفسير الكلمة عند الحنفية : أريد بذلك عند
أبي يوسف منقطعو الغزاة والحجيج . وقيل : المراد طلبة العلم ، واقتصر عليه في الفتاوى الظهيرية ، وفسره في البدائع بجميع القرب فيدخل فيه كل سعي في طاعة الله وسبل الخيرات . قال في البحر : ولا يخفى أن قيد الفقر لا بد منه على الوجوه كلها ، فحينئذ لا تظهر ثمرته في الزكاة ، وإنما تظهر في الوصايا والأوقاف اهـ . ونقول : إنه بهذا القيد أبطل كون سبيل الله صنفا مستقلا إذا أرجعه إلى الصنف الأول وهم الفقراء والمساكين اهـ .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12815القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في أحكام القرآن : قوله :
وفي سبيل الله قال
مالك : سبل الله كثيرة ، ولكني لا أعلم خلافا في أن المراد بسبيل الله هنا الغزو من جملة سبيل الله ( هكذا ) إن ما يؤثر عن
أحمد وإسحاق فإنهما قالا : إنه الحج . والذي يصح
[ ص: 432 ] عندي من قولهما أن الحج من جملة السبل مع الغزو ؛ لأنه طريق بر فأعطي منه باسم السبيل ، وهذا يحل عقد الباب ، ويخرم قانون الشريعة ، وينثر سلك النظر ، وما جاء قط بإعطاء الزكاة في الحج أثر . وقد قال علماؤنا : ويعطى منها الفقير بغير خلاف ؛ لأنه قد سمي في أول الآية ، ويعطى الغني عند
مالك بوصف سبيل الله تعالى كان غنيا في بلده أو في موضعه الذي يأخذ به ، لا يلتفت إلى غير ذلك من قوله الذي يؤثر عنه . قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ
nindex.php?page=hadith&LINKID=920344لا تحل الصدقة إلا لخمسة : غاز في سبيل الله وقال
أبو حنيفة : لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيرا . وهذه زيادة على النص . وعنده أن الزيادة على النص نسخ ولا نسخ في القرآن إلا بقرآن مثله أو بخبر متواتر ، وقد بينا أنه فعل مثل هذا في الخمس في قوله :
ولذي القربى فشرط في قرابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الفقر ، وحينئذ يعطون من الخمس ، وهذا كله ضعيف حسبما بيناه ، وقال
محمد بن عبد الحكم : يعطى من الصدقة في الكراع والسلاح ، وما يحتاج إليه من آلات الحرب ، وكف العدو عن الحوزة ؛ لأنه كله من سبيل الغزو ومنفعته ، وقد
nindex.php?page=hadith&LINKID=2003446أعطى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الصدقة مائة ناقة في نازلة سهل بن أبي حتمة إطفاء للثائرة اهـ .
وما قاله
مالك وابن عبد الحكم من أصحابه من التعبير بالغزو بدل الغزاة ، ومن الصرف في السلاح والكراع إلخ هو الحق الظاهر من كون هذا السهم في المصلحة العامة لا لأشخاص الغزاة .
وقال
السيد حسن صديق في فتح البيان وهو على مذهب أهل الحديث المستقلين - بعد ذكر قول الجمهور : إنهم الغزاة والمرابطون وإن كانوا أغنياء ، وبعد ذكر الرواية المتقدمة عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر وعن
أحمد وإسحاق ما نصه : وقيل إن اللفظ عام فلا يجوز قصره على نوع خاص ، ويدخل فيه جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد وغير ذلك ، والأول أولى لإجماع الجمهور عليه اهـ .
وقال في الروضة الندية : ومن جملة سبيل الله الصرف في العلماء الذين يقومون بمصالح المسلمين الدينية ، فإن لهم في مال الله نصيبا سواء كانوا أغنياء أو فقراء . بل الصرف في هذه الجهة من أهم الأمور ؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء وحملة الدين وبهم تحفظ بيضة الإسلام ، وشريعة سيد الأنام ، وقد كان علماء الصحابة يأخذون من العطاء ما يقوم بما يحتاجون إليه ، مع زيادات كثيرة يتفوضون بها في قضاء حوائج من يرد عليهم من الفقراء وغيرهم والأمر
[ ص: 433 ] في ذلك مشهور . ومنهم من كان يأخذ زيادة على مائة ألف درهم ، ومن جملة الأموال التي كانت تفرق بين المسلمين على هذه الصفة الزكاة . وقد
nindex.php?page=hadith&LINKID=920345قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعمر لما قال له يعطى من هو أحوج منه : " ما أتاك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك " كما في الصحيح والأمر ظاهر اهـ .
أقول : ما ذكره
السيد رحمه الله تعالى هنا غير ظاهر على إطلاقه ، وحديث
عمر ـ رضي الله عنه ـ يفسره حديث
ابن السعدي الذي تقدم في بحث العاملين على الصدقات ، وهو أنه كان عمالة كما رجحه بعضهم ، ورجح آخرون أن المراد به العطاء من بيت المال كالغنائم ، وفيه : أن
عمر لم يكن غنيا كما هو معروف ، ولفظ الحديث صريح فيه . والحديث متفق عليه من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر قال : سمعت
عمر يقول :
nindex.php?page=hadith&LINKID=920346كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعطيني العطاء فأقول : أعطه من هو أفقر إليه مني ، فقال : " خذه ، إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك " .
قال الحافظ في شرحه من الفتح : قال
nindex.php?page=showalam&ids=14695الطحاوي : ليس معنى هذا الحديث في الصدقات ، وإنما هو في الأموال التي يقسمها الإمام ، وليست هي من جهة الفقر ، ولكن من الحقوق ، فلما قال
عمر : أعطه من هو أفقر إليه مني ، لم يرض بذلك ؛ لأنه إنما أعطاه لمعنى غير الفقر . قال : ويؤيده قوله في رواية
شعيب : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920347خذه فتموله " فدل ذلك على أنه ليس من الصدقات .
" وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري : اختلفوا في قوله : " فخذه " بعد إجماعهم على أنه أمر ندب ، فقيل : هو ندب لكل من أعطي عطية أبى قبولها كائنا من كان ، وهذا هو الراجح ، يعني بالشرطين المتقدمين ، وقيل : هو مخصوص بالسلطان ، ويؤيده حديث
سمرة في السنن "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920348إلا أن يسأل ذا سلطان " وكان بعضهم يقول : يحرم قبول
العطية من السلطان . وبعضهم يقول : يكره ، وهو محمول على ما إذا كانت العطية من السلطان الجائر ، أو الكراهة محمولة على الورع وهو المشهور من تصرف السلف والله أعلم ، والتحقيق في المسألة أن من علم كون ماله حلالا فلا ترد عطيته ، ومن علم كون ماله حراما فتحرم عطيته ، ومن شك فيه فالاحتياط رده وهو الورع ، ومن أباحه أخذ بالأصل . قال
ابن المنذر : واحتج من رخص فيه بأن الله تعالى قال في
اليهود :
سماعون للكذب أكالون للسحت ( 5 : 42 ) وقد رهن الشارع درعه عند يهودي مع علمه بذلك ، وكذلك أخذ الجزية منهم مع العلم بأن أكثر أموالهم من ثمن الخمر والخنزير والمعاملات الفاسدة . وفي حديث الباب : إن للإمام أن يعطي بعض رعيته إذا رأى لذلك وجها وإن كان غيره أحوج إليه منه ، وأن رد عطية الإمام ليس من الأدب ، ولا سيما من الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقوله تعالى :
وما آتاكم الرسول فخذوه ( 59 : 7 ) الآية اهـ .
[ ص: 434 ] ( أقول ) : إن بعض السلف أباح أخذ مال السلاطين وغيرهم إذا كان بحق ، وإن كان أصله حراما ، ويستدلون بما قاله
ابن المنذر وبغيره مما لا محل له هنا . وأما السنة في هذا السهم فقد استدلوا منها بأحاديث ( منها ) روى
أبو داود nindex.php?page=showalam&ids=13478وابن ماجه والحاكم وصححه من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=920349لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : لعامل عليها ، أو رجل اشتراها بماله ، أو غارم ، أو غاز في سبيل الله ، أو مسكين تصدق عليه منها فأهدى لغني منها ورواه
مالك في الموطأ من مرسل
nindex.php?page=showalam&ids=16572عطاء بن يسار وهي إحدى روايتي
أبي داود . وإسناد من أسنده زيادة يجب الأخذ بها ، وقد أسنده
معمر nindex.php?page=showalam&ids=16004وسفيان الثوري .
( ومنها ) ما روى
أحمد من حديث
أبي لاس الخزاعي قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=920350حملنا رسول الله على إبل من الصدقة إلى الحج - وروي
nindex.php?page=hadith&LINKID=920351عن أم معقل الأسدية أن زوجها جعل بكرا في سبيل الله ، وأنها أرادت العمرة فسألت زوجها البكر فأبى ، فأتت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فذكرت له ذلك فأمره أن يعطيها ، وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الحج والعمرة في سبيل الله ورواه بنحوه أصحاب السنن وهو ضعيف ، وفي إسناده مجهول ، ويعارضه ما رواه
أبو داود من طريق
محمد بن إسحاق nindex.php?page=hadith&LINKID=920352عن أم معقل قالت : لما حج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حجة الوداع وكان لنا جمل فجعله أبو معقل في سبيل الله ، وأصابنا مرض وهلك أبو معقل وخرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فلما فرغ من حجته جئته فقال : " يا أم معقل ما منعك أن تخرجي " ؟ قالت : لقد تهيأنا فهلك أبو معقل ، وكان لنا جمل هو الذي يحج عليه فأوصى به أبو معقل في سبيل الله . فقال : " فهلا خرجت عليه فإن الحج من سبيل الله " ؟ وهذا ضعيف أيضا ، لا للخلاف في
nindex.php?page=showalam&ids=12563ابن إسحاق بل ؛ لأنه مدلس ، وقد عنعن هنا ، ومن وثقه يردون ما عنعن فيه لتدليسه .
وأقول : من جهة المعنى - أولا - أن جعل
أبي معقل جمله في سبيل الله أو وصيته به صدقة تطوع ، وهي لا يشترط فيها أن تصرف في هذه الأصناف التي قصرتها عليها الآية - وثانيا - أن حج امرأته عليه ليس تمليكا لها يخرج الجمل عن إبقائه على ما أوصى به
أبو معقل . ويقال مثل هذا في حديث
أبي لاس - ثالثا - أن الحج من سبيل الله بالمعنى العام للفظ ، والراجح المختار أنه غير مراد في الآية .
ويأتي هاهنا تحرير المراد من هذا العموم : أما عموم مدلول هذا اللفظ فهو يشمل كل أمر مشروع أريد به مرضاة الله تعالى ، بإعلاء كلمته ، وإقامة دينه ، وحسن عبادته ، ومنفعة
[ ص: 435 ] عباده ، ولا يدخل فيه الجهل بالمال والنفس ، وإذا كان لأجل الرياء والسمعة . وهذا العموم لم يقل به أحد من السلف ، ولا من الخلف ، ولا يمكن أن يكون مرادا هنا ؛ لأن الإخلاص الذي يكون به العمل في سبيل الله أمر باطني لا يعلمه إلا الله تعالى ، فلا يمكن أن تناط به حقوق مالية دولية ، وإذا قيل : إن الأصل في كل طاعة من المؤمن أن تكون لوجه الله تعالى فيراعى هذا في الحقوق عملا بالظاهر ، اقتضى هذا أن يكون كل مصل وصائم ومتصدق وتال للقرآن وذاكر لله تعالى ومميط للأذى عن الطريق مستحقا بعمله هذا للزكاة الشرعية ، فيجب أن يعطى منها ، ويجوز له أن يأخذ وإن كان غنيا ، وهذا ممنوع بالإجماع أيضا ، وإرادته تنافي حصر المستحقين للصدقات في الأصناف المنصوصة ؛ لأن هذا الصنف لا حد لجماعاته فضلا عن أفراده ، وإذا وكل أمره إلى السلاطين والأمراء تصرفوا فيه بأهوائهم تصرفا تذهب به حكمة فرضية الصدقة من أصلها .
( فإن قيل ) نخصص العموم بما رواه
أحمد - وقال : ما أجوده من حديث -
وأبو داود nindex.php?page=showalam&ids=15397والنسائي بأسانيد صحيحة كما قال
النووي عن
عبد الله بن عدي بن الخيار nindex.php?page=hadith&LINKID=920353أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسألانه من الصدقة ، فقلب فيهما البصر ، ورآهما جلدين فقال : " إن شئتما أعطيتكما ولاحظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب " وبحديث
أبي سعيد المتقدم آنفا ( قلنا ) : إن هذا ليس تخصيصا لعموم " سبيل الله " .
والتحقيق : أن سبيل الله هنا مصالح المسلمين العامة التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد ، وأن حج الأفراد ليس منها ؛ لأنه واجب على المستطيع دون غيره ، وهو من الفرائض العينية بشرطه كالصلاة والصيام ، لا من المصالح الدينية الدولية ، وسيأتي بيانه بشيء من التفصيل ، ولكن شعيرة الحج وإقامة الأمة لها منها ، فيجوز الصرف من هذا السهم على تأمين طرق الحج وتوفير الماء والغذاء وأسباب الصحة للحجاج إن لم يوجد لذلك مصرف آخر .