وبعد أن نبأ الله تعالى رسوله بما يعتذرون به لقنه ما يرد به عليهم بقوله :
قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون والمعنى أن الخوض واللعب إذا كان موضوعه صفات الله وأفعاله وشرعه وآياته المنزلة وأفعال رسوله وأخلاقه وسيرته كان ذلك استهزاء بها ؛ لأن الاستهزاء بالشيء عبارة عن الاستخفاف به ، وكل ما يلعب به فهو مستخف به ، وقد حررنا معنى اللفظ في تفسير ما أسنده تعالى إلى المنافقين من قولهم لشياطينهم :
[ ص: 457 ] إنا معكم إنما نحن مستهزئون ( 2 : 14 ) أي بقولنا للمؤمنين آمنا ، كما أن من يحترم شيئا أو شخصا أو يعظمه ، فإنه لا يجعله موضوع الخوض واللعب ، وتقديم معمول فعل الاستهزاء عليه يفيد القصر والاستفهام عنه للإنكار التوبيخي ، والمعنى : ألم تجدوا ما تستهزئون به في خوضكم ولعبكم إلا الله وآياته ورسوله فقصرتم ذلك عليهما ، فهل ضاقت عليكم جميع مذاهب الكلام تخوضون فيها وتعبثون دونهما ، ثم تظنون أن هذا عذر مقبول ، فتدلون به بلا خوف ولا حياء ؟
لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم أي : قد كفرتم بهذا الخوض واللعب بعد إيمانكم ، فاعتذاركم إقرار بذنبكم ، وإنما الاعتذار الإدلاء بالعذر ، وهو بالضم ما يراد به محو الذنب ، وترك المؤاخذة عليه ، وأنتم قد جئتم بما يثبت الذنب ويقتضي العقاب ، أو هو كما قيل : " عذر أقبح من الذنب " يقال : اعتذر إلي عن ذنبه فعذرته ( من باب ضرب ) أي : قبلت عذره ، ورفعت اللوم عنه ، وهو على الراجح المختار مأخوذ من عذر الصبي يعذره - أي ختنه ، فعذره - تطهيره بالختان ، إذ هو قطع لعذرته أي قلفته التي تمسك النجاسة .
( فإن قيل ) ظاهر هذا أنهم كانوا مؤمنين فكفروا بهذا الاستهزاء الذي سموه خوضا ولعبا ، وظاهر السياق أن الكفر الذي يسرونه ، هو سبب الاستهزاء الذي يعلنونه . ( قلنا ) كلاهما حق ، ولكل منهما وجه فالأول : بيان لحكم الشرع ، وهو أنهم كانوا مؤمنين حكما ، فإنهم ادعوا الإيمان ، فجرت عليهم أحكام الإسلام ، وهي إنما تبنى على الظواهر ، والاستهزاء بما ذكر عمل ظاهر يقطع الإسلام ويقتضي الكفر ، فبه صاروا كافرين حكما ، بعد أن كانوا مؤمنين حكما .
والثاني : وهو ما دل عليه السياق هو الواقع بالفعل ، والآية نص صريح في أن الخوض في كتاب الله وفي رسوله ، وفي صفات الله تعالى ووعده ووعيده ، وجعلها موضوعا للعب والهزؤ ، كل ذلك من الكفر الحقيقي الذي يخرج به المسلم من الملة ، وتجرى عليه به أحكام الردة ، إلا أن يتوب ويجدد إسلامه .
ثم قال تعالى :
إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين الطائفة مؤنث الطائف ، من الطوف أو الطواف حول الشيء ، والطائفة من الناس الجماعة منهم ، ومن الشيء القطعة منه ، يقال : ذهبت طائفة من الليل ، ومن العمر . وأعطاه طائفة من ماله ، وإذا أريد بالطائفة الجماعة كان أقلها ثلاثة على قول الجمهور في الجمع . والخطاب هنا للمعتذرين أو لجملة المنافقين ، فإن كانت هذه الآية مما أمر الله رسوله أن يقوله لهم
[ ص: 458 ] كالذي قبله ، فالمراد بالعفو والتعذيب ما يفعله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في
المدينة ، وإلا كان المراد ما سيكون في الآخرة ، والمعنى : إننا إن نعف عن بعضكم بتلبسهم بما يقتضي العفو ، وهو التوبة والإنابة ( ومنهم
مخشي بن حمير ) نعذب بعضا آخر باتصافهم بالإجرام ورسوخهم فيه ، وعدم تحولهم عنه ، أي : بالإصرار على النفاق وما يستلزمه من الجرائم الظاهرة ، وهذا التقسيم عقلي إذ لا يخلو حالهم من التوبة أو الإصرار ، فمن
تاب من كفره ونفاقه عفي عنه ، ومن أصر عليه وأظهره عوقب به ، فإن كان الوعيد من النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمعناه هذا ما سننفذ حكم الشرع عليكم به عند الرجوع من دار الحرب إلى دار الإسلام ؛ لأن دار الحرب لا تقام فيها الحدود وأمثالها من الأحكام ، والمختار عندنا أنه من الله تعالى ، وأن المراد به عفو الله وتعذيبه في الآخرة . وقال
الضحاك : يعني أنه إن عفا عن طائفة منهم فليس بتارك الآخرين .
( فإن قيل ) إنه بين سبب التعذيب وهو الإصرار على الإجرام ، ولم يبين سببا للعفو ، أفليس هذا دليلا على أنه لمحض الفضل ؟ ( قلنا ) إن ما بينه يدل على ما لم يبينه ، فإنه لما ذكر أنهم كفروا بعد إيمانهم ، دل على أنهم استحقوا العذاب بكفرهم . فبيانه بعد هذا لسبب تعذيب بعضهم دال على أن التعذيب ينتفي بانتفاء هذا السبب ، وإنما يكون ذلك بترك النفاق وإجرامه والتوبة منهما ، والأدلة العامة تدل على أن الوعيد على الكفر لا بد من نفوذه على من لم يتب منه ، وأن الوعيد على الذنوب بعضه ينفذ وبعضه يدركه العفو .
وأما عدد من يتوب ويعفى عنه ، وعدد من يصر ويعاقب بالفعل من كل من الطائفتين ، فيصح أن يكون واحدا أو اثنين أو أكثر ، فإن كان واحدا فلا يسمى طائفة ، وإنما يكون واحدا من الطائفة ممثلا لها ، وروي عن
الكلبي أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما أقبل من غزوة تبوك وبين يديه ثلاثة رهط استهزئوا بالله وبرسوله وبالقرآن ، قال : وكان رجل منهم لم يمالئهم في الحديث يسير مجانبا لهم يقال له يزيد بن وديعة ، فنزلت : إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة فسمي طائفة وهو واحد اهـ . وبناء على هذه الرواية قال من قال : إن الطائفة من الواحد إلى الألف ، وروي عن
مجاهد - ومن زعم - أنها تطلق على الرجل والنفر . وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، وهو غلط ، والرواية المذكورة عن
الكلبي لا تقتضيه ، وهي لا تصح سندا
فالكلبي متروك ، ولا معنى لها فإن الذي كان يسير مجانبا لا يتناوله وعيدهم ، ولكن المتعلقين بالروايات يحكمونها في العقائد والأحكام ، أفلا يحكمونها في اللغة أيضا فيقولون : إن الواحد يسمى طائفة ؟ وقد حافظ بعض المفسرين على اللغة في هذه الرواية فقالوا : إن التاء في طائفة للمبالغة ، كراوية لكثير من الرواية ، وهو غير ظاهر هنا
[ ص: 459 ] وإنما الظاهر ما شرحناه ، ولله الحمد والمنة . والظاهر أن أكثر أولئك المنافقين قد تابوا واهتدوا بعد نزول هذه السورة التي نبأتهم بما في قلوبهم كما سيأتي قريبا .
وقد ظهر بما قررناه وجه الاتصال بين الشرط والجزاء ، بما سقط به استشكال بعض كبار العلماء ، كسلطانهم العز بن عبد السلام ، واستغنينا به عما تكلفه المتكلفون لحل الإشكال .