[ ص: 473 ] يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله فإن يتوبوا يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير
هاتان الآيتان تهديد للمنافقين ، وإنذار لهم بالجهاد كالكفار المجاهرين ، إذا استرسلوا بهذه الجرأة في إظهار ما ينافي الإيمان والإسلام ، من الأقوال والأفعال ، كالقول الذي أنكروه بعد أن أظهره الله عليه ، وكذبهم الله تعالى في إنكارهم ، أو بجهاد دون جهاد الكفار المحاربين وأقله ألا يعاملوا بعد هذا الأمر كمعاملة المؤمنين الصادقين ، وأن يقابلوا بالغلظة والتجهم لا بالطلاقة والبشر واللين ، وغير ذلك مما يأتي بيانه في هذه السورة . قال عز وجل :
ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم أي : ابذل جهدك في مقاومة الفريقين الذين يعيشون مع المؤمنين بمثل ما يبذلون من جهدهم في عداوتك ، وعاملهم بالغلظة والشدة الموافقة لسوء حالهم ، وقدم ذكر الكفار في جهاد الدنيا ; لأنهم المستحقون له بإظهارهم لعداوتهم له ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولما جاء به ، والمنافقون يخفون كفرهم وعداءهم ويظهرون الإسلام فيعاملون معاملة المسلمين في الدنيا ، وقدم ذكر المنافقين في جزاء الآخرة ; لأن كفرهم أشد ، وعذرهم فيه أضعف ، وقد تقدم تفسير الجهاد بمعناه العام المستعمل في القرآن ، وبمعناه الخاص بالقتال في مواضع أجمعها الاستطراد الذي كتبناه في آخر آية الجزية ( ص269 وما بعدها ج 10 ط الهيئة ) وفيها أن الجهاد مشاركة من الجهد وهو الطاقة والمشقة كالقتال من القتل ، وأنه حسي ومعنوي ، وقولي وفعلي ، واتفق علماء الملة على أن
المنافقين يعاملون بأحكام الشريعة كالمسلمين الصادقين ، فلا يقاتلون إلا إذا أظهروا الكفر البواح بالردة ، أوبغوا على جماعة المسلمين بالقوة ، أو امتنع بعض طوائفهم من إقامة شعائر الإسلام
[ ص: 474 ] وأركانه ، وروي في تفسير الآية المأثور عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال :
جهاد الكفار بالسيف ، وجهاد المنافقين باللسان ، ففسر الكفار هنا بالحربيين ، وسيأتي من
جهاد المنافقين حرمانهم من الخروج والقتال مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومن صلاته على جنائزهم ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال
لما نزلت : ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين أمر رسول الله أن يجاهد بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، فإن لم يستطع فليلقه بوجه مكفهر ، فقوله : " فليلقه " يفهم منه أن هذا في جهاد الأفراد بالمعاملة ، لا في جهاد الجماعات بالمقاتلة ، فهو إذا بمعنى إزالة المنكر في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :
nindex.php?page=hadith&LINKID=918934من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان رواه الجماعة - إلا
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري - من حديث
nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ ، وزاد
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود : لقاء الكافر أو المنافق بوجه مكفهر أي : عبوس مقطب ، ولكن لا يظهر جعله دون كراهة القلب ، ولا أن كراهة القلب لا تستطاع ، ولم نقف على سند هذا الحديث فنعرف مكانه من الصحة .
وكان
من شمائله ـ صلى الله عليه وسلم ـ طلاقة الوجه ، والبشاشة في وجوه جميع من يلقاهم حتى الكفار والمنافقين ، روى الشيخان
وأبو داود nindex.php?page=showalam&ids=13948والترمذي عن
عائشة : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=920364أن رجلا استأذن على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما رآه قال : بئس أخو العشيرة ، وبئس ابن العشيرة ، فلما جلس تطلق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في وجهه وانبسط إليه ، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة : يا رسول الله حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا ، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " يا عائشة متى عهدتني فاحشا ؟ إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره " وكان ذلك الرجل على الراجح
عيينة ابن حصن الذي تقدم ذكره في المؤلفة قلوبهم في سياق قسمة الغنائم بعد غزوة
حنين وسياق مصارف الزكاة ، وكان سيد قومه على حماقته ، فلقب بالأحمق المطاع وقد أسلموا تبعا له ، فكان إسلامهم أصح من إسلامه .
ولا تعارض بين الحديثين لأن حديث
عائشة من شمائل النبي وآدابه العامة .
وحديث
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود في معاملة خاصة بالمنافقين والكفار هي من قبيل العقوبة ، فالأول بمعنى قوله تعالى :
فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ( 3 : 159 ) وفي معناه أحاديث كثيرة ، والثاني مفسر للآية التي نحن بصدد تفسيرها ، وفي معناها قوله تعالى :
قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة ( 9 : 123 ) والغلظة في اللغة : الخشونة والشدة ، ومعاملة العدو المحارب بهما من الشيء في موضعه ، ومعاملته باللين والرحمة وضع لهما في غير موضعهما .
ووضع الندى في موضع السيف في العلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
[ ص: 475 ] وأما الأعداء غير المحاربين كالمنافقين الذين قال الله عنهم لرسوله :
هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون ( 63 : 4 ) والكفار المعاهدين والذميين الخائنين فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعاملهم أولا بلطفه ولينه بناء على حكم الإسلام الظاهر ، وكانت هذه المعاملة هي التي جرأت المنافقين على أذاه بما تقدم في هذا السياق ، ومنه قولهم فيه : " هو أذن " ( 61 ) وكذلك كفار
اليهود ، كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ عاهدهم ووفى لهم ، وكانوا يؤذونه حتى بتحريف السلام عليه بقولهم : السام عليكم ، وهو الموت ، فيقول : " وعليكم " ثم تكرر نقضهم لعهده حتى كان من أمرهم ما تقدم بيانه في تفسير سورة الأنفال ( ص46 وما بعدها ج 10 ط الهيئة ) فأمره الله تعالى في هذه الآية بالغلظة على الفريقين في جهاده التأديبي لهم - ومثلها بنصها في سورة التحريم - وهو جهاد فيه مشقة عظيمة ; لأنه موقف وسط بين رحمته ولينه للمؤمنين المخلصين ، وشدته في قتاله للأعداء الحربيين ، يجب فيه إقامة العدل ، واجتناب الظلم ، ومن كلام
عمر ـ رضي الله عنه ـ فيه : أذلوهم ولا تظلموهم ، وهذه الغلظة الإرادية ( أي غير الطبيعية ) تربية للمنافقين وعقوبة ، يرجى أن تكون سببا لهداية من لم يطبع الكفر على قلبه ، وتحيط به خطايا نفاقه ، فإن اكفهراره ـ صلى الله عليه وسلم ـ في وجوههم تحقير لهم يتبعه فيه المؤمنون ، وبه وبما سيأتي يفقدون جميع منافع إظهار الإسلام الأدبية ، ومظاهر أخوة الإيمان وعطفه ، فمن رأى أنه محتقر بين قومه وأبناء جنسه ، من الرئيس والإمام الأعظم وغيره يضيق صدره ، ويرجع إلى نفسه بالمحاسبة ، فيراها إذا أنصف وتدبر مليمة مذنبة فلا يزال ينحي عليها باللائمة ، حتى تعرف ذنبها ، وتثوب إلى رشدها ، فتثوب إلى ربها ، وهي سياسة حكمة كانت سبب توبة أكثر المنافقين ، وإسلام ألوف الألوف من الكافرين .
هذا وإن معاشرة الرئيس من إمام وملك وأمير لمنافقي قومه بمثل ما يعاشر به المخلصين منهم ، فيه توطين لأنفسهم على النفاق ، وحمل لغيرهم على الشقاق ، فكيف إذا وضع المحاسنة موضع المخاشنة ، والإيثار لهم حيث تجب الأثرة عليهم ، وبالغ في تكريمهم بالحباء والاصطفاء ، لمبالغتهم في التملق له ، ودهان الدهاء ، والإطراء في الثناء ؟ فإن هذه المعاملة مفسدة لأخلاق الدهماء ، ومثيرة لحفائظ المخلصين الفضلاء ، وكم أفسدت على الملوك الجاهلين أمرهم ، وكانت سببا لإضاعة ملكهم .
ومأواهم جهنم وبئس المصير هذا جزاؤهم في الآخرة عطفه على جزائهم في الدنيا ، فهم لا مأوى لهم يلجئون إليه هنالك إلا دار العذاب الكبرى ، التي لا يموت من أوى إليها ولا يحيا ، فهم يصيرون إليها معتولين ، ويدعون إليها مقهورين ، لا يأوون إليها مختارين ، وبئس المصير هي إنها ساءت مستقرا ومقاما ( 25 : 66 ) .