( فصل في
فوائد الزكاة المفروضة والصدقات والإصلاح المالي للبشر )
وامتياز الإسلام بذلك على جميع الأديان
ما ذكره الله تعالى من تطهير الصدقة للمؤمنين وتزكيتهم بها يشمل أفرادهم وجماعتهم ، فهي تطهر أنفس الأفراد من أرجاس البخل والدناءة والقسوة والأثرة والطمع والجشع ، ومن أكل أموال الناس بالباطل من خيانة وسرقة وغصب وربا وغير ذلك ، فإن الذي يتربى بالإيمان على بذل بعض ما في يده أو ما أودعه في خزانته وصندوقه في سبيل الله ابتغاء مرضاته ومغفرة ذنوبه ورفع درجاته جدير بأن ينزه نفسه عن أخذ مال غيره بغير حق . وهذا التطهير لأنفس الأفراد وتزكيتها بالعلم ، والتقوى التي هي مجموع ثمرات الإيمان ، يستلزم تطهير جماعة المؤمنين ( وما يعبر عنه في عرف هذا العصر بالهيئة الاجتماعية ) من أرجاس الرذائل الاجتماعية التي هي مثار التحاسد والتعادي والبغي والعدوان والفتن والحروب .
ذلك بأن الأموال قوام حياة الناس وقطب الرحى لمعايشهم ومرافقهم العامة والخاصة وهم متفاوتون في الاستعداد للكسب والتثمير ، والإسراف والتقتير ، والقصد والتدبير ، والجود والبخل ، والتعاون على البر ، فلا ينفك بعضهم محتاجا إلى بعض في كسب الرزق وفي
[ ص: 23 ] إنفاقه ، وأشدهم استعدادا لجمع الثروة الذين يغلب على طباعهم الحرص والبخل حتى على أنفسهم وأولي قرباهم ، وبهذا يكون بعضهم فتنة - أي امتحانا - لبعض ومثارا للتنازع والتخاصم كما قال تعالى : (
وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون ) ( 25 : 20 ) أي ذلك مقتضى سنته في تفاوت البشر في الاستعداد والأخلاق والأعمال . وقد بينا حكمة ذلك من قبل .
ولما كان الدين مرشدا للبشر إلى تزكية أنفسهم وتقويم أخلاقهم بما تصلح به فطرتهم ، ويرتقي به أفرادهم وجماعتهم - شرع الله فيه من الأحكام التعبدية والعملية ما يقيهم شر هذه الفتنة وينقذهم مما يترتب على إهمالها من المحنة فأوجب على أصحاب الأموال من النفقات والصدقات ما يبدل سيئات الثروة في الإسلام حسنات ، وإننا لم نجد في كتب التفسير ولا كتب الفقه ولا دواوين التاريخ بيانا علميا لحكمة الشريعة في السياسة المالية وما انفردت به من الإصلاح المعقول فيها ، وكنت عازما على شرح ذلك في تفسير هذه الآية فلما وصلت إليه وفكرت في أصول هذه المسألة وفروعها تبين لي أنه لا يمكن تفصيل القول فيها إلا بتأليف سفر مستقل ورأيت أن أكتفي هنا بإيراد أهم الحقائق التي تشير إلى عظم شأن هذه المسألة وإصلاح الإسلام فيها فأقول :
إن اتساع دوائر العلوم والفنون والمصالح العامة في هذا العصر قد اضطر الباحثين إلى انفراد بعض الأفراد والجماعات للإحصاء في كل فرع من فروعها لتمحيص مسائلها والإحاطة بها بقدر الإمكان ، حتى إن الرجال الماليين لا يستحقون هذا اللقب فيه ( أي لقب المالي ) إلا بعد إتقان عدة علوم منها ، والتمرن ، بالعمل في بعض فروعها ، وإننا نرى بعض الاجتماعيين منهم يجزمون بأن جميع الثورات والحروب السياسية والدينية ذات الشأن في تاريخ البشر قد كان المال سببها الصحيح ، أو أحد الأسباب المؤثرة فيها أشد التأثير ، ولم يستثنوا من ذلك حروب
أوربة الدينية ولا حروبها الصليبية للإسلام .
بل نشر منذ سنين كتاب عربي طبع في القدس موضوعه ( الحركات الفكرية في الإسلام ) زعم مؤلفه تابعا لبعض مؤرخي
الإفرنج : أن الإسلام لم يكن فكرة دينية محضا بل كان مسألة اقتصادية واجتماعية أيضا ، أو كان هذا هو الغرض الأول المقصود بالذات منه ولم يكن الدين إلا وسيلة له ، ونقل عن (
كايتاني ) المؤرخ الإيطالي المشهور أن الإسلام لم يكن دينيا إلا في الظاهر وأن جوهره كان سياسيا واقتصاديا قال ( ( ومن فضل مؤسس الدين الإسلامي ومظاهر عبقريته أنه أدرك مصدر الحركة الاقتصادية والاجتماعية التي ظهرت في أيامه
بمكة عاصمة
الحجاز ، وعرف كيف يستفيد منها ويسخرها لأغراضه السامية دينية كانت أو اجتماعية ، ثم بسط ذلك من طريق ظواهر التاريخ بما هو باطل في نفسه ، خادع
[ ص: 24 ] ببعض مظاهره ، وما أظن أن الناقل عنه - وهو نصراني الديانة . شيوعي السياسة - يعتقد اعتقاده هذا ، وإنما يريد فيما يظهر نشر الشيوعية التي ابتدعها بلاشفة دولته الروسية في العرب وزلزلة العقائد الإسلامية في المسلمين ، وربما نجد فرصة للرد على كتابه في المنار ، وحسبي هنا أن أقول : لو كان الإسلام كما ذكر لظهر أثره في أعلم الناس بحقيقته ، وأصدقهم في إقامة أركانه بالعلم والعمل ، وفي طليعتهم الخلفاء الراشدون ، والأئمة المجتهدون ، وقد قال
nindex.php?page=showalam&ids=16673عمر بن عبد العزيز الجامع بين الإمامتين في كتاب له إلى بعض عماله الماليين : إن
محمدا - صلى الله عليه وسلم - بعث هاديا ، ولم يبعث جابيا .
والحق أن
الإسلام هو الدين الوسط ، الجامع بين مصالح الروح والجسد ، للسيادة في الدنيا والسعادة في الآخرة ، فهو وسط بين اليهودية المالية الدنيوية ، والنصرانية الروحانية الزهدية ، وأن من مقاصده الإصلاحية في الاجتماع البشري هداية الناس إلى العدل والفضل في أمر المال ; ليكتفي الناس شر طغيان الأغنياء ، وذلة الفقراء ، ونصوص القرآن والسنة في هذا هي الغاية القصوى في الإصلاح ، وهي هادمة لمزاعم هؤلاء المفتاتين على الإسلام بالجهل والهوى .
غلا عباد المال من
اليهود والإفرنج في جمعه واستغلاله ، واستعباد الألوف وألوف الألوف من العمال الفقراء به ، بجعله دولة بينهم ، وغلا خصومهم من
الاشتراكيين في مقاومتهم ومحاولة جعل الناس فيه شرعا ، وجعله بينهم حقا شائعا فانتهى هذا الغلو بالشيوعية الروسية في عصرنا أن استعبدت أكثر من مائة ألف من البشر تسخرهم في تنفيذ مذهبها كالأنعام والدواب ، وتبذل جل ما تنتزعه من ثروتهم في بث الدعاية له في جميع الأقطار . ويخشى العقلاء من عاقبة هذا الإسراف والغلو من الجانبين حربا عامة طامة ، وفتنة لا تصيبن الذين ظلموا منهم خاصة .
ولا منقذ للأمم من هذه الفتنة وعواقبها إلا بدين الإسلام أعني بالتدين به والعمل بأحكامه المالية وغيرها . ولا يمكن التزامها بالعمل إلا بإذعان الدين ، وقد بدأ عقلاء
الإفرنج يشعرون بالحاجة إلى دين معقول يصلح بالتزامه فساد هذه المدنية المادية ، ولن يجدوا حاجتهم إلا في دين القرآن ، وسنة خاتم النبيين - عليه الصلاة والسلام - ، وأخشى ألا يهتدوا إليه إلا بعد البطشة الكبرى والطامة العظمى ، وهي حرب التدمير المنتظرة من تنازع البلشفية والرأسمالية ، وإنني أذكر هنا أهم أصول الإصلاح الإسلامي في المسألة المالية التي تبتدر فكري وتبدهه فأقول :
( 1 ) إقرار الملكية الشخصية وتحريم
أكل أموال الناس بالباطل .
( 2 )
تحريم الربا والقمار .
[ ص: 25 ] ( 3 ) منع جعل المال دولة بين الأغنياء : أي يتداولونه بينهم من دون الفقراء ولم يكن هذا التداول في عصر من أعصار البشر كما في عصر النظام المالي المتبع في الحضارة الغربية نظام البيوت المالية ( المصارف ) والشركات والاحتكارات التي يحاربها العمال ، ويعادون لأجلها أرباب الأموال .
( 4 )
الحجر على السفهاء في أموالهم ، حتى لا يضيعوها فيما يضرهم ويضر أمتهم .
( 5 )
فرض الزكاة المطلقة في أول الإسلام ، وكانت اشتراكية باعثها إذعان الوجدان لا إكراه الحكام ، ثم نسخت أو قيدت بالمعينة الإجبارية عندما صار للإسلام دولة ، ولو وجدت تلك الحال التي كان عليها المسلمون في
مكة قبل الهجرة لوجبت عليهم فيها تلك الزكاة الاشتراكية ، أعني أنه إذا وجد في مكان جماعة محصورون منهم الموسر والمعسر ، وصاحب الثروة وذو الفقر المدقع ، وجب أن يقوم أغنياؤهم بكفاية فقرائهم وجوبا دينيا إذا كانت الزكاة المعينة لا تكفيهم .
( 6 ) جعل
الزكاة المعينة ربع العشر في النقدين والتجارة ، والعشر أو نصف العشر في الغلات الزراعية التي عليها مدار الأقوات ، وزكاة الأنعام معروفة في كتب الحديث والفقه .
( 7 )
فرض نفقة الزوجية والقرابة .
( 8 ) إيجاب كفاية المضطر من كل جنس ، ودين وضيافة الغريب حيث لا مأوى ولا فنادق للمسافرين ، إلا إذا كان مهدور الدم أو محاربا للمسلمين .
( 9 ) جعل بذل المال كفارة لبعض الذنوب ( ومنها الظهار وإفساد صيام يوم من رمضان بشروطها المعروفة ) .
( 10 ) ندب صدقات التطوع والترغيب فيها .
( 11 )
ذم الإسراف والتبذير ، والبخل والشح والتقتير ، وعده من أسباب الهلكة وسوء المصير ، أي للأفراد وللأمة والدولة .
( 12 ) إباحة الزينة والطيبات من الرزق بشرط اجتناب الإسراف والخيلاء الموقعين في الأمراض والأدواء البدنية ، المضيعين للثروة المالية ، المثيرين للحسد والعداوة والمفاسد الاجتماعية ، وهي من أعظم أسباب ترقي الثروة .
( 13 ) مدح القصد والاعتدال ، في النفقة على النفس والعيال .
( 14 )
تفضيل الغني الشاكر ، على الفقير الصابر . بجعل اليد العليا خيرا من اليد السفلى . وأعمال البر المتعدي نفعها إلى الناس أفضل من الأعمال القاصر نفعها على فاعلها ، وجعل الصدقة الجارية ، من المثوبات الدائمة الباقية .
[ ص: 26 ] أرأيت أمة من الأمم تقيم هذه الأركان ويوجد فيها فقر مدقع ، أو غرم موجع ، أو شقاء مفظع ؟
ألم تر أن زكاة النقدين الواجبة - وهي ربع العشر - هي أوسط ربح تدفعه المصارف المالية لمودعي نقودهم فيها للاستغلال ، وقد يقل عن ذلك ؟
قدر الثروة القومية في النقد والتجارة للشعب المصري ، وانظر مقدار ربع عشرها الواجب دفعه في كل عام لفقرائها ومصالحها ، وارجع البصر إلى سائر أنواع الزكاة ومقاديرها ، تعرف قدر سعادته إذا وضعها في مواضعها وتعلم صدق ما قلناه في تفسير آية مصارف الصدقات من أن أداء الزكاة وحده كاف لإعادة مجد الإسلام الذي أضاعه المسلمون .
اقرأ (
وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) ( 2 : 195 ) واقرأ (
ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ) ( 59 : 9 ) وتدبر جد التدبر (
هاأنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) ( 47 : 38 ) .
وقد جاء في الكتاب والسنة من
الترغيب في بذل المال في سبل البر ، وجعله من أكبر آيات الإيمان ، وموجبات الثواب والرضوان ، وتبويء غرف الجنان وتسميته إقراضا للرحمن ما لم يجئ مثله في أي عمل من أعمال البر والإحسان . وتجد أكثر الشواهد على ذلك في سورة البقرة ثم في هذه السورة ( براءة ) ما تقدم تفسيره منها وما تأخر .